دعوات «المثلث العربي» لا الوقت وقتها ولا ظروفها ملائمة!

TT

تكررت الدعوة، وإن ليست على نحو رسمي ولا على نطاق واسع، لإحياء ما وصفه الداعون بأنه «مثلث الارتكاز العربي»، وهو مثلث لم يكن موجودا ولم يصنع أي قرار ويفرضه على الدول العربية فرضا بحكم الأمر الواقع ومن دون استشارتها وأخذ رأيها، وكل هذا مع أنه كان هناك تنسيق، لم يأخذ طابع المحور ولا هيئة التحالف المعزول عن الأشقاء الآخرين الذي يفرض نفسه عليهم خلافا لرغبتهم، بين المملكة العربية السعودية وسورية وجمهورية مصر العربية، وهذا كان في فترة قصيرة، أعقب إخراج قوات صدام حسين من الكويت في بدايات تسعينات القرن الماضي.

ولعل ما يمكن تأكيده استنادا إلى مجريات السياسات المتبعة أنه لا المملكة العربية السعودية التي يقودها زعيم يتصف ببعد النظر وبحكمة الفلاسفة وبواقعية أكثر الرجال الذين صنعوا التاريخ وبالحرص على لملمة الشمل العربي والابتعاد بهذه الأمة عن خطيئة التمحور والاستقطاب، ولا مصر التي علمتها التجارب في مراحل صراع المعسكرات وبعد ذلك أن انخراطها في الانحيازات الصغيرة المغلقة يفقدها دورها التاريخي ويحشرها في زاوية ضيقة ويبعدها عن فضائها العربي إنْ في اتجاه أفريقيا وإنْ في اتجاه بلاد الشام كلها والهلال الخصيب كله بما في ذلك العراق، وإنْ أيضا في اتجاه الخليج العربي واليمن في آسيا.

لا يمكن أن تقْدم المملكة العربية السعودية على هكذا خطوة وتحشر نفسها في مثلث وهمي تدعو إليه بعض الأقلام المنساقة مع رغبات شخصية لا تستند إلى أي مبرر ولا يدعمها أي موقف رسمي بينما كان عاهلها العظيم حقا قد بدأ في رحلة الألف ميل الجديدة في قمة الكويت الاقتصادية التي انعقدت العام الماضي بفتح صفحة جديدة بعيدة عن المحاور والاستقطابات وبتغليب العام القومي على الخاص القُطري ولملمة شمل العرب بعد أن تفرقت بهم الطرق وباعدت بينهم الحسابات الضيقة ومزقت وحدة مواقفهم ولو في الحد الأدنى تطلعات وألاعيب ذوي النظرات القصيرة الذين يظنون أن هروبهم إلى الدوائر الصغيرة والضيقة سيطيل رقابهم وسيرفع قاماتهم خارج حدود دولهم وداخلها أيضا وسيبرر تطاولهم على من هم أحق منهم بالزعامة القومية والإقليمية.

إن المملكة العربية السعودية التي هي حاضنة العرب جميعهم وللعرب كلهم، صغيرهم وكبيرهم، تعرف بحكمة وحنكة قائدها العظيم حقا أن لعبة المحاور و«المثلثات» والمربعات التي يطرحها البعض من قبيل الاستجابة لأهواء شخصية وعلى طريقة: «قل كلمتك وامشِ» ستفرِّق الواقع العربي أيدي سبأ وستعزز ابتعاد المغرب عن المشرق، والمعروف أن المملكة العربية السعودية تحرص كل الحرص على إشعار المملكة المغربية بأنها مثابة عربية، كما كانت وكما ستبقى، وأنه بالإمكان اختصار المسافات الجغرافية بينها وبين أشقائها في المشرق وفي الخليج وفي الجزيرة العربية من خلال التواصل المستمر، ومن خلال أن خادم الحرمين الشريفين عندما يذهب إلى الرباط كأنه يذهب من جِدَّة إلى الرياض أو من الرياض إلى مكة المكرمة.

وإن مصر تعرف أن الحديث عن «مثلث» استقطابي وفي هذا الوقت، الذي يتطلب تعزيز مسيرة اللملمة العربية التي بدأها خادم الحرمين الشريفين بتحويل قمة الكويت الاقتصادية؛ أولا إلى قمة سياسية، وثانيا إلى قمة توحيد بعد أن كان العالم بأسره ينتظر أن تكون هذه القمة نهاية هذه الأمة ونهاية اتفاقها ولو على الحد الأدنى، سيجعل الدول المغاربية تتحصن في مغاربيتها ضد بعدها العربي القومي، وسيجعل باقي دول آسيا العربية تبحث لها عن ملاجئ محورية حتى وإن اضطرت للبحث عن خالات لها في الإطار الإقليمي الذي يعتبر بلورة مثل هذا «المثلث» أمنية الأماني بالنسبة إليه، خاصة أن هناك من ينهمك في استعادة دور قديم كانت ظروفه غير هذه الظروف وكانت المنطقة تخضع لوضعية ما قبل الإسلام العظيم عندما كان العرب مجرد قبائل تقتتل على مصادر المياه وعلى سهوب رعي الإبل.

ثم، وهذا يجب أن لا يغيب عن أذهان الذين يدعون للعودة إلى هذا «المثلث» بطريقة التغميس خارج الصحن، أن هذا «المثلث» لم يكن موجودا على الإطلاق، وأنه لا السعودية ولا مصر قد انخرطتا في أي يوم من الأيام في محور ضيق أبعدها عن موقع القيادة في المنطقة العربية. وهنا، فإن الحقيقة التي ربما لا تعرفها الأقلام التي اعتادت على شطحات الخيال، أن التطاول على المركز القيادي العربي لم ينتعش إلا في مناخات مثل هذه التمحورات الضيقة التي حاول استغلالها الذين لا تتعدى نظراتهم أرْنبات أنوفهم لضرب وحدة موقف الحد الأدنى لهذه الأمة خدمة لحسابات مشبوهة وغير عربية.

إن هذه حقائق لا يجوز إهمالها أو القفز من فوقها. وإن من بين هذه الحقائق أن حزب البعث عندما توصل إلى الحكم في العراق وسورية تباعا قد حاول اختطاف راية ما يسمى التيار القومي وقيادة الأمة العربية من يد عبد الناصر، ثم إن هذا البعث ما لبث أن انقسم على نفسه، فأصبح هناك بعث سورية وأصبح هناك بعث العراق، وذلك على غرار انقسام الشيوعية العالمية بين شيوعية صينية بقيادة ماوتسي تونغ وشيوعية روسية - سوفياتية بقيادة الثلاثي ليونيد بريجنيف - نيكولاي بودغورني - أليكسي كوسيجن.

في هذه المرحلة المشار إليها لم تكن هناك بين مصر الناصرية وسورية البعثية والمملكة العربية السعودية، التي تركز عليها الاستهداف «القوْمَجي» واليساري، التي رغم هذا كله بقيت جاهزة دائما لتغليب العام على الخاص ونجدة هؤلاء الذين يناصبونها العداء كلما حلت بهم مصيبة أو وقعوا في مأزق، إلا خنادق المواجهة. ومع كل هذا فقد بلغ التباعد بين دمشق والقاهرة، بعد أن خاضتا معا حرب أكتوبر (تشرين الأول) المجيدة حدودا غير مسبوقة، وذلك مع أن المعروف أن هاتين العاصمتين كانتا قد دخلتا في تجربة وحدوية فاشلة جديدة انضمت إليها طرابلس الغرب هذه المرة بعد أن أسقطت ثورة العقيد معمر القذافي النظام الملكي الذي أقيم وفقا للدعوة السنوسية ذات الطابع الديني التحديثي المعروفة.

وأيضا فإن المعروف أن المملكة العربية السعودية كانت قد واجهت محورا رباعيا قبل اجتياح صدام حسين للكويت في عام 1990، هذا مع أن المملكة العربية السعودية ومعها مصر والأردن والمغرب واليمن ودول الخليج كلها قد انحازت للعراق عندما تعرض لحرب تصدير الثورة الإيرانية إليه بينما كانت «الشقيقة» سورية قد انحازت ومعها الجماهيرية الليبية والجزائر إلى حد ما إلى إيران. وهذا كله يؤكد كمْ أن هذه المنطقة زئبقية، وأن مثلثاتها ومربعاتها غير دائمة، وأن الدول الراسخة، وفي مقدمتها السعودية، لا يمكن أن تقبل أو تسمح بسياسات المحاور والاستقطابات و«المثلثات» و«المربعات» مرة أخرى بعد أن ثبت أن كل هذه التمحورات تفتيتية حتى وإن كانت النوايا مخلصة وطيبة.

نحن الآن، بينما هناك مشاريع إقليمية تستهدف العرب ومكانتهم ودروهم بالدرجة الأولى وبينما هناك العنجهية الإسرائيلية التي تجاوزت كل الحدود، بحاجة إلى لملمة الشمل وبحاجة إلى وحدة الموقف ولو على أساس الحد الأدنى، وهذا يتطلب؛ أولا التمسك بالمسيرة التقريبية التي بدأها خادم الحرمين الشريفين في قمة الكويت والتي أنجزت انتزاع لبنان من بين أشداق العودة للحرب الأهلية المدمرة. ويتطلب ثانيا الابتعاد عن سياسات المحاور والاستقطابات التي لم تجلب على هذه الأمة إلا الويلات والكوارث.

إن أهم إنجاز عربي بالإمكان تحقيقه في هذه المرحلة الخطيرة، حيث لم يُستهدف العرب في تاريخهم الحديث كما يستهدفون الآن، هو المحافظة على ما تحقق بعد الخطوة الجبارة التي اتخذها خادم الحرمين الشريفين في قمة الكويت الشهيرة، وهذا يقتضي التصدي لأي دعوات استقطابية وتمحوُرية حتى وإن جاءت في هيئة الترويج لمثلث وهمي لم يكن قائما في أي يوم من الأيام، فهذا ليس وقته الآن ولو من قبيل مجرد الرغبة في المناكفة وحب الظهور ومجرد الاستمتاع بالرياضة الفكرية. قبل الدعوة إلى مثلثات ومربعات لا بد من إيجاد أرضية مشتركة بين العرب بغالبيتهم؛ إنْ ليس كلهم، وإيجاد هذه الأرضية يتطلب الاتفاق على تصور مشترك تجاه إيران وما تقوم به تجاه هذه المنطقة.