وظائف النزاع على العلمانية في لبنان والعالم العربي

TT

لا تزال وسائل الإعلام العربية تعلق على التظاهرة الحدث في لبنان والتي جرت قبل عشرة أيام؛ عندما شارك نحو الألف من طلاب (الجامعة الأميركية في بيروت) وناشطين حزبيين، في مسيرة اخترقت وسط بيروت باتجاه البرلمان، داعية في شعاراتها للعلمانية، والتي عنوا بها فصل الدين عن الدولة (وقال اليساريون بحسب شعار لينين: فصل الدولة والمجتمع عن الكنيسة)، وتجاوز النظام (السياسي) الطائفي اللبناني. والذي أذكره في العقود الأربعة الماضية أن شيئا من ذلك لم يحصل إلا في مناسبتين، أولاهما في بداية الحرب الأهلية اللبنانية عندما كان المسلمون ينادون بإلغاء الطائفية السياسية، فيرد عليهم الشبان المسيحيون (وأحيانا بعض رجال الدين) بالدعوة إلى العلمنة الشاملة (ويعنون بذلك إحراج المسلمين بفرض قانون واحد للأحوال الشخصية شأنه شأن الدول الأوروبية؛ أو ما يعرف بالزواج المدني). والمرة الثانية في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، عندما ازداد الانقسام السياسي تحت اسم الطائفية، واستولت ميليشيات حركة أمل ووليد جنبلاط على بيروت الغربية معارضة الرئيس أمين الجميل. وقتها أيضا تظاهر مئات من الشبان والشابات عند المتحف الذي كانت المدينة تنشطر عنده إلى شرقية وغربية. والطريف يومها أيضا أن المسيرة الشبابية في ذلك الزمان ما أعجبت الميليشيات جميعا في الشرقية والغربية. لقد ذكرتُ السياقات اللبنانية للدعوة إلى العلمانية، لأشير إلى أن الأزمة بالفعل عندنا - نحن اللبنانيين - هي أزمة النظام السياسي، الذي ما عاد يستطيع منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي إرضاء أي من أطرافه الرئيسيين. ولذا يثور في كل فترة طرف منهم يعتقد أن «الظلم» الذي يقع عليه لم يعد يطاق، أو أنه صار في موقع يستطيع منه التغلب على الأطراف الأخرى أو استتباعها لمصالحه ومشروعاته المحلية أو الإقليمية. وسواء انتصر الطرف «المظلوم» أو المستقوي أم لا ؛ فإن الأمر يهدأ لفترة لكن على أساس غلبة طائفية جديدة أو مرجوة. ويثير ذلك بالطبع ليس الطائفتين الأخريين الكبيرتين المغلوبتين؛ بل والطوائف الصغرى المهمشة تماما، كما يثير شبانا وشابات لا ينتمون لأي جهة سياسية أو دينية؛ وإنما يريدون نظام حكم يرون مثالياته في الأنماط الأوروبية والأميركية. وكان الشيخ الحكيم، والباحث عن الاعتدال والتوسط الراحل محمد مهدي شمس الدين قد أطلق تسمية «الحكم المدني» أو «الدولة المدنية» على نظامنا الموعود، ورجا أن يوافقه الآخرون المتضررون من المسلمين والمسيحيين عليه. لكن الشعار أو المصطلح ما حظي إلا بموافقة المعتدلين، وظل الشبان اليساريون والمتحررون على النمط الفرنسي يفضلون «التعبير الصريح» كما يقولون، وهو النظام العلماني! فالعلمانية في لبنان - في أكثر تعبيراتها صفاء وحيادية - إنما تريد إصلاح النظام السياسي، وللبعض من وراء ذلك تعبيرات مستترة عن الانزعاج من «الرجعية والأصولية» الإسلاميتين، واللتين تحولان دون إقرار نظام الزواج المدني (أي إمكان زواج غير المسلم من المسلمة) - وهذا يعني كما سبق القول وجود طموحات «ثقافية» مستمرة - إذا صح التعبير - للتناظر والتماثل مع المجتمعات والدول الغربية. والطريف أيضا وأيضا أن الحملات الإعلامية والثقافية تحصل في لبنان على الجهات الدينية الإسلامية (السنية والشيعية) باعتبارها هي التي تحول دون إقرار الزواج المدني، كما تفرض قيودا قاسية على المرأة في الطلاق؛ بينما الواقع أن الكنائس المسيحية هي الأكثر معارضة للزواج المدني وإن لم تتصدر الحملة عليه، كما أنه لا طلاق على الإطلاق في الزواج المسيحي، ولذلك يعيش اليوم ما نسبته 23% من المتزوجين المسيحيين في حالة هجران وانفصال وعدم مساكنة، لتعذر الطلاق!

ولندع لبنان إلى البلدان العربية الأخرى التي عرفت دعوات إلى العلمانية، وهي تمتلك دوافع مختلفة بعض الشيء عن دوافع التبشيرية العلمانية في بلاد الأرز. وهنا تجدر العودة إلى الشيخ شمس الدين، وإلى الأستاذ محمد عابد الجابري. فمحمد عابد الجابري رأى أن المسلمين يكرهون العلمانية من الاسم، ولذلك فالأفضل الحديث عن المدنية والعقلانية أو الحكم الرشيد والديمقراطية. وبذلك فقد تجاهل الجابري المسائل الثقافية والآيديولوجية، التي حكمت وتحكم هذه المسألة في فرنسا والبلدان الأوروبية الأخرى، ورأى أن الدين في الحقيقة ليس هو الذي يستولي اليوم على الشأن السياسي العربي؛ بحيث ينبغي فرض العلمانية للخلاص منه، وإنما المطلوب نظام مدني أو نظام يسمح بممارسة الحكم الرشيد. وكان همّ الشيخ شمس الدين أعمق أو أنه مختلف. إذ إنه كان ضد تجريد المجتمع من ثقافته الإسلامية كما فعلت تركيا الكمالية، ودول آسيا الوسطى والقوقاز في الزمن الشيوعي. وفي الوقت نفسه ضد استيلاء (رجل) الدين على إدارة الشأن العام أو الشأن السياسي تحت اسم أن الإسلام دين ودولة (حسن البنا والنبهاني والخميني)، ومصحف وسيف (البنا والجهاديون). فالمجتمع الإسلامي له خصوصياته في المجموع والفئات، ويقوم نظامه الأخلاقي والعائلي على الدين، ولا ينبغي تفكيكه بالانفصالات والقيود التي تثير الإحساسات الدينية، ولا تضبطها. بيد أن الحركات (السياسية) السنية، أو حركات الإسلام السياسي، ونظام ولاية الفقيه (لدى الإيرانيين) تقول بالدولة الدينية على نهج البنا والخميني، والدولة هي التي تتولى إدارة الشأن العام القائم على المصالح، ولا يجوز التمييز فيها على أساس الدين، أو فرض وجهة نظر دينية معينة؛ ولذلك جاءت هذه التسمية لدى شمس الدين، أي الدولة المدنية، التي تقوم على المشاركة الشعبية، وعلى التفرقة بين الدولة والنظام. فالنظام (والحكومة) يمكن أن يأتي إليهما من طريق الانتخاب أناس ذوو ميول إسلامية، لأن المجتمع مسلم في أغلبياته العظمى؛ لكن الدولة ينبغي أن تظل على دستور للحكم المدني الذي يساوي بين الناس في الحقوق والواجبات، ويتبنى فصل السلطات وتعاونها، والتداول السلمي على السلطة. ومنذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي، خاض الشيخ شمس نقاشات عاصفة مع مفكري الإخوان المسلمين والقريبين منهم، بشأن طبيعة نظام الحكم في الإسلام، وما يجوز وما لا يجوز فيه. وقد قال لي ساخرا في مطلع التسعينات عندما كنا نتناقش حول النتائج المأساوية للانتخابات الجزائرية: عندما خرجت بنظريتي بشأن الدولة المدنية كنت أتوقع صراعا مع الشيعة من الفريقين: فريق الانتظار، وفريق «ولاية الفقيه». أما فريق التقليديين فرأى عدم مجادلتي بشأن طبيعة النظام السياسي في «زمن الغيبة»، وأما فريق ولاية الفقيه فنهى أنصاره عن مجادلتي حتى لا تنتشر رؤيتي؛ في حين هجم عليّ السنة الذين كان أشاعرتهم ومعتزلتهم وسلفيوهم يقولون إن الدولة أمر مصلحي وهي ليست شأنا تعبديا ولا هي من أصول الدين، ولذا يا أخي فإن السنة هم الذين تغيروا بوعي أو بدون وعي، ولا فرق في ذلك بين تقليدييهم وإخوانهم. فقد كان السنة قديما يقولون بالحكم المدني أو الأحكام السلطانية أو «السياسة الشرعية» عندما تتأزم الأمور، وصاروا جميعا يقولون بالدولة الدينية. أما الشيعة فلا يزال هناك فريق منهم لا يرى مانعا من الدولة المدنية العادلة في زمن الغيبة!

لقد حدثت تغيرات بالطبع في النقاش في المسألة في العقدين الأخيرين. إذ كثر الاعتذاريون من الإسلاميين، والذين لا يرون تناقضا بين الدولة المدنية وتطبيق الشريعة فيها؛ لأن الحاكم ليس رجل دين وليس معصوما، ولأن الأكثرية الشعبية مسلمة وهي التي تختار ممثليها المخلصين للإسلام، والذين يقرون القوانين، فتبقى المسألة ديمقراطية! أما الليبراليون الراديكاليون العرب المعادون للإسلاميين فإنهم خرجوا على كل تسوية شكلية أو غير شكلية عندما طالبوا بالفصل بين الدين من جهة، والدولة والمجتمع من جهة أخرى. وقالوا إن الدين سيظل يهدد الدولة إن بقيت الثقافة الاجتماعية دينية. ومع ذلك فإن المشكل السياسي/الثقافي ليس سببه الأطروحات الدينية / السياسية للإسلاميين، ولا الأطروحات اللائيكية للتحرريين العلمانيين. بل المشكل علته الأنظمة الشمولية التي سادت في العقود الخمسة الأخيرة، وما تركت متنفسا لا في السياسة ولا في الثقافة ولا في الدين. ولو عادت الأمور إلى طبيعتها في التداول السلمي للسلطة، وفي الانتخابات الحرة والمنتظمة، لتغيرت الأجواء الثقافية والدينية، ولعاد النقاش إلى الموضوعات الحقيقية التي تمس مصالح الناس المباشرة؛ من مثل التنمية والمشاركة والقضايا الاجتماعية الملحاحة.

ورغم مضي ثلاثة قرون على اللائيكية والعلمانية؛ فإنهما لا تزالان مثار نقاشات في أوروبا والولايات المتحدة، على حد سواء. ومن أسباب ذلك اختلاف أصول ووظائف المسألتين بين أوروبا والولايات المتحدة، والظروف المستجدة في المجالين الحضاريين بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001. ففي أوروبا النهضوية اتجه النقاش العاصف - الذي بلغ ذروته في الثورة الفرنسية - إلى فصل الدين عن الدولة حمايةً للدولة والنظام من شرور الانقسامات الدينية وسلبياتها واستغلالاتها. أما في الولايات المتحدة؛ فإنه ومنذ زمن الدستور في القرن السابع عشر، كان المقصود من الفصل معكوسا أي حماية الدين - كما قال آباء الدستور - من الدولة والاستغلالات السياسية من جانب رجالات السياسة. وفي الواقع اتجه الأوروبيون أيضا بعد الحرب العالمية الثانية إلى تلطيف الأجواء بين الدولة والدين، بما في ذلك في فرنسا. أما التوجهات في العقدين الأخيرين، والتي عادت لربط الدين بالهوية الوطنية؛ فإنه لا سبب لها إلا الخوف من الإسلام أو الإسلاموفوبيا. وقد بدأ ذلك في دول اسكندنافيا والبنلوكس، وهو يشتعل الآن في فرنسا ويمتد إلى سويسرا وألمانيا. والكنائس – وبخاصة البروتسانتية - لا تدخل فيه، وهي تعلم أن الأوروبيين ما ازدادوا تدينا وتمسكا بالمسيحية بحيث يربطونها بالهوية الوطنية - وإنما صاروا يخشون الإسلام على نظامهم الاجتماعي والثقافي بسبب سخافات أقلية من مراهقي المسلمين والمسلمات، والسمعة السيئة قولا وفعلا التي نشرها أسامة بن لادن وجهاديوه عن الإسلام والمسلمين!