يهود إسرائيل.. هل أصبحوا (ضحية) التحجر السياسي لقيادتهم؟

TT

أظهر آخر استطلاع للرأي أجرته جريدة «هآرتس» الإسرائيلية أن 50% من الإسرائيليين مرتعبون من المستقبل، وأن 76% يتوقعون هجوما عسكريا مباغتا ، كما أن 70% فقدوا الثقة بقيادتهم ، وأن 37% يفضلون الهجرة إلى الخارج، وأن أكثر من 70% قد انعدمت ثقتهم - بإطلاق - في صورة إسرائيل السياسية والأمنية.

ما سبب هذا التشاؤم والإحباط؟

الأسباب كثيرة، ولكن من أبرزها وأوكدها (التحجر السياسي) لدى قادة إسرائيل، ولا سيما رموز هذه الحكومة اليمينية المشبعة بالتعصب والتطرف والانغلاق، ذلك أن التحجر السياسي هو قرين أو وليد (التحجر الأيدلوجي)، وهو تحجر كان من أعمق أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي الذي ضحى قادته بالمصالح القومية الحيوية في سبيل (وهم الأيدلوجية الشيوعية) ونشرها في العالم على أنقاض النظام الرأسمالي!! ومن النماذج أو الأمثال التي تُضرب للعلاقة بين التحجر السياسي والتحجر الأيدلوجي: ما ورد في كتاب (خرتشوف يتذكر). فمما جاء في هذا الكتاب: أن المندوب السوفيتي في الأمم المتحدة كان يتلو نصوصا مكتوبة في هذه الاجتماعات الأممية.. وفي كثير من الأحيان يقتضي الموقف كلاما جديدا، وعندئذ يطلب المندوب السوفيتي مهلة حتى يرجع إلى موسكو لتعديل فقرة أو سطر أو جملة في النص المكتوب.. وقد تكون هذه مبالغة من الاستخبارات الأمريكية المتهمة بأنها وراء الكتاب - أو أنها دست فقرات فيه، بيد أن قرائن الأحوال تشير إلى إمكانية وقوع هذه الحالة حيث إن التحجر الأيدلوجي يأتي بالعجائب والغرائب السياسية المضحكة!!

وهنا نسأل: هل سيصبح يهود إسرائيل (ضحية) بائسة للتحجر السياسي في تفكير وسلوك قادتهم؟ لقد تسابق - في الأيام الأخيرة - كل من بنيامين نتنياهو، وايهود باراك في (نفي) أن إسرائيل تخطط لشن حرب في المنطقة، ربما لصعوبات شديدة تكتنف قرار الحرب، وهي صعوبة عبر عنها أبرز المحللين الاستراتيجيين الإسرائيليين جبرائيل سيبوني حين قال: «يبدو أن حرب الأيام الستة (أي حرب عام 1967) لن تتكرر مرة أخرى»، وربما هناك أسباب أخرى تتعلق بعزوف الشبان اليهود عن الانخراط في الجيش أو البقاء فيه.. وإلى جانب تعذر الحرب - لهذا السبب أو ذاك -: تعجز حكومة اليمين المتطرف عن صنع السلام.. وتعذّر الحرب زائد عجز عن صنع السلام يساوي جمودا أو شللا ملخصا في (التحجر السياسي) الذي يتضمن - بالضرورة - (التخلف السياسي).. وليس يُقبل الخلط - ها هنا - بين التقدم التقني والتقدم السياسي، بمعنى الاستنتاج بأن التقدم التقني يثمر - تلقائيا - التقدم السياسي.. ففي القديم كانت دولتا فارس والروم متقدمتين على العرب في المجال التقني: ومع ذلك تفوق العرب عليهما في ميادين التفكير السياسي، والقرار السياسي، والعمل السياسي.. وفي عصرنا هذا: كانت ألمانيا النازية مترعة بالعلوم والتقنيات المتنوعة، لكن هتلر ومن معه كانوا متحجرين سياسيا، وهو تحجر دفعهم إلى توظيف هذه الإمكانات الحقيقية الضخمة فيما أهلكهم ودمر بلدهم. ومن شاء أن يسحب المثل على صدام حسين ومن معه فليفعل، وهو مصيب في ذلك. فمأساة القيادة العراقية البائدة هي (التحجر السياسي): بمعناه النظري والتطبيقي.

فمن أهم خصائص السياسة: فتح أبواب وآفاق الاحتمالات، والاستعصاء الدائم على الانغلاق في مثل جحر الضب أو في دائرة لا يُتصور الخروج منها.. وعلى الضد، فإن من مقاييس التخلف أو التحجر السياسي: الجمود الغبي على خيارات وأساليب سياسية ثبت عقمها وفشلها.

ووفق هذا المقياس الأخير يعمل الفريق الحاكم في إسرائيل اليوم، كما فعل أمثالهم من قبل.

إن المشروع الصهيوني قد انتقل إلى مرحلة جديدة في علاقته بالعرب والقضية الفلسطينية وهي مرحلة ذات خيارين متحجرين:

أ- خيار ثبات إسرائيل على ما هي عليه دون تعديل في استراتيجيتها تجاه الحق الفلسطيني الذي يتوجب رده إلى أصحابه وكذلك تجاه حقوق العرب الآخرين في أراضيهم.. ومن نظرية الثبات هذه: أن إسرائيل إذا قدمت ذرة للعرب فإنها تأخذ طنا في مقابل الذرة. وهذا ليس تعديلا في حقيقة الأمر، بل هو إضافة جديدة للاستراتيجية الثابتة أو الجامدة.

ب- خيار خريطة تعديل المنطقة بما يتكيف مع (الهوى العبري).. وكل جهود التطبيع التي تبذلها إسرائيل تدخل في هذه الخريطة: إن أردتم سلاما فاقبلوا به مفصلا على (مزاجنا)، ووفق أجندتنا، وإلا فاصطادوا سمكا في البحر الميت!! وهذا ما يفسر تهويدهم للقدس - مثلا - فهو تهويد يندرج في سياسة (اقبلوا بسلام من مقتضياته تهويد القدس).

إن نوافذ السلام قد انسدت في المنطقة (باستثناء ثقوب مصطنعة تفتعلها الإدارة الأمريكية من خلال الضغط على الجريح أو الذبيح الفلسطيني لأجل الموافقة على محادثات غير مباشرة)!

نعم.. آفاق السلام قد انسدت في المنطقة.. والسبب الرئيس في الانسداد (المحفوف بمخاطر تفوق تقديرات الإسرائيليين والأمريكان والعرب).. السبب الرئيس هو:

1- أن (إرادة السلام) لدى الإسرائيليين لم تكن جازمة ولا صادقة، بل نستطيع أن نقول - بموجب براهين كثيرة - إنه لم تكن هناك قط إرادة إسرائيلية للسلام، بل كان هناك (استثمار سياسي) طموح ودائب وموسع لـ(ظروف الضعف) الفلسطينية والعربية.. وفرق كبير - سياسيا وأخلاقيا - بين الانتهاز الأناني لفرصة لاحت، وبين تبييت النية وعقد الإرادة على السلام الحقيقي.

2- أن هذا التنظير يصدقه واقع تطبيقي وهو سلوك الإسرائيليين العملي المعادي للسلام. فعلى الرغم من أن القيادة الفلسطينية قدمت كل شيء، وغامرت بكل شيء، وأعطت قبل أن تأخذ، فإن القادة الصهيونيين تصرفوا أو مارسوا ذات السلوك الذي سبق أوسلو. فقد كان أول معيار عملي لمصداقية (الذهنية الجديدة)!! التي نشأت بعد أوسلو هو البدء في الانسحاب الإسرائيلي من الأرض الفلسطينية في الموعد المتفق عليه.. لكنهم تملصوا من ذلك بسهولة، أو بعدم اكتراث.. ثم لم يلبثوا أن صنعوا لجة لزجة تعلق بالأقدام فتقيد أو تبطئ الخطى حول مسألة المعابر، وكلما انتقدوا بسبب ذلك رفعوا شعار: كل شيء يحال إلى المفاوضات، وكلما عرضت نقطة في هذه المفاوضات قالوا: هذه لم نتفق عليها وتتطلب مزيدا من الدرس والتشاور والمراجعة.. لماذا ذلك كله؟ الهدف هو أن يمتد الزمن ويطول، ويتبخر الاتفاق من شدة حرارة الوقائع الجديدة. ومن ثم ينسى أوسلو أو يبقى مجرد مرجعية أكاديمية قديمة دحرتها على وراء وراء الوقائع على الأرض، على حين يكون المكسب الإسرائيلي الأعظم قد تحقق وهو الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل دون مقابل جدي وجوهري.. وإذا جاز - في مثل هذا الطرح الصارم - إدخال (فن الرواية)، فإننا نقول: لم يبق إلا أن يكتب الفلسطينيون - بأيديهم - وثيقة يعلنون فيها بوضوح تام، ودقة لا تحتمل التأويل: أن من حق اليهود الثابت والدائم إلى يوم القيامة: أن يبيدوا الفلسطينيين دون منازع، وأن يشردوهم في القارات كلها أو خارج الكوكب إن أمكن، على أن تنص هذه الوثيقة أيضا على أن تلتزم كل امرأة فلسطينية بعدم الإنجاب بصفة مطلقة ودائمة.

ولنفترض - وفق خيال فن الرواية - أن ذلك كله قد حصل، فهل ستنعم المنطقة؟ هل ستنعم إسرائيل نفسها بالسلام والأمن والاستقرار؟ لا .. لا .. لا مؤكدة مغلظة مكررة. وهي (لا) مسنودة معززة بحقائق وحجج تاريخية وموضوعية وعقلية وسيكلوجية. منها: أن الضغوط حين تصل إلى هذا الحد من الفجور والتفنن في صور الإذلال والاستخفاف والإهانة، فإنها تصنع وتنشئ أضخم طاقة من المرارة والكراهية والسخط. وهذه الطاقة هي (المخزون السري) الذي سيتفجر - يقينا - فيقوض دعائم السلام والأمن والاستقرار.

وهذا التحليل مؤيد بمعلومات (يهودية) تفيد: أن يهود الخارج أكثر أمنا من يهود إسرائيل وهذا يعني، أولا، أن معظم اليهود في الأرض المحتلة في حالة هلع ورعب تفسد عليهم معيشتهم هم وعيش ذراريهم. ويعني ثانيا: أن المشروع الصهيوني قد فشل في تحقيق هدفه وهو: إقامة (وطن قومي آمن لليهود)..

وعلى الرغم من ذلك كله، فإن قادة إسرائيل العميان احتفلوا منذ قليل بمرور ذكرى 62 عاما على (احتلال فلسطين). فبم تحتفلون؟ أتحتفلون بخيبتكم السياسية والتاريخية المتمثلة في فشلكم في صنع السلام عبر 62 عاما؟

حقيقة: إن التحجر السياسي يجر الكوارث على المتحجر، وعلى من حوله.