الزعيم في حضرة الأرملة

TT

زميلنا المخضرم بيتر سنو ابتكر، قبل الإنترنت بعشرين عاما، وسيلة إيضاح بصرية اسمها swingometer، كلمة مركبة: الفعل swing «يتأرجح» والاسم Meter أي المقياس، ولها مؤشر ضخم يتأرجح على مقياس مقسم إلى 650، عدد مقاعد مجلس العموم، وموصل بكومبيوتر مبرمج إحصائيا يحول نسبة الأصوات التي حصل عليها كل حزب في دائرة إلى عدد المقاعد البرلمانية.

يوم الأربعاء، ناشدت سنو في تعليقي بالإنجليزية، بسخرية سياسية طبعا، أن ينقذنا في هذه المرحلة من تغطية الحملات الانتخابية بابتكار Flyingpigsometer أو مقياس تأرجح عدد الخنازير الطائرة عقب كل مؤتمر انتخابي. فالتعبير الإنجليزي: «سأصدق عندما تطير الخنازير»، باعتبارها أكثر حيوانات المزرعة وزنا وكسلا وحبا للنوم، إشارة لمبالغات المتكلم المناقضة للواقع. وبالفعل وصلت كمعلق يغطي حملات الساسة ووعودهم الانتخابية - غير القابلة للتطبيق - يوميا إلى مرحة الضجر، فسلمت أمري للزميل سنو.

بعدها بساعة تغير الجو إلى إثارة فكاهية و«تشمير» الصحافيين عن سواعدهم مهاجمين الكيبورد بحماس لم تشهد الصحافة له مثيلا منذ هبوط نيل أرمسترونغ على القمر.

رئيس الوزراء غوردن براون تعثر لسانه فسقط بدوي يسمعه سكان المريخ، في حادثة لو كتبها سيناريست لفيلم كوميدي لاتهم بالمبالغة.

جيلليان دافيي، ابنة الـ65 خريفا، مطلقة متقاعدة في روتيشديل شمال غربي إنجلترا، تحول مشوارها اليومي للسوق إلى انقلاب إعلامي سياسي قلب خطط رئيس الحكومة في أهم أيام الحملة الانتخابية، عشية أهم مناظرة تلفزيونية في حياته، وربما تغير مسار التاريخ لو أثر على الناخب يوم الخميس.

براون، كغيره من آلاف المرشحين يتجول يوميا في الأسواق والشوارع بين الناس، ويتبعه جيش جرار من الصحافيين بالكاميرات والميكروفونات وأجهزة التسجيل والنوت والأقلام.

كانت تعليقات «التويتر» و«الفيس بوك» سخرت من وضع أغلبية زبائن أي مقهى يدخله براون «مصادفة» الوردة الحمراء (شعار العمال الانتخابي) على صدورهم وكلهم يبتسمون رافعين الإبهام علامة الاستحسان. هل انتقلت عدوى الـ«99.9% قالوا نعم للزعيم» لجهاز العمال الانتخابي الذي يسبق الزعيم قبل وصوله المقهى «مصادفة» ويتأكد من خلو جيوب الزبائن من البيض والطماطم (وسيلة تعبير لبعض الناخبين باتجاه وجه المرشح، فأقصى ما تفعله الشرطة هو تأنيب قاذف البيض قبل أن يمضي لحال سبيله).

الأسبوع الماضي، اعترض المكتب الصحافي لحزب العمال الحاكم على تدلية مهندسي صوت الفرق التلفزيونية للميكروفون فوق رؤوس الناس الذين يحادثهم براون، بحجة أن كثيرا من الكلمات لا يسمعها المشاهدون فلا تصلهم الرسالة مما يؤثر على شعبيته (طبعا المقصود اتهام غير مباشر للإذاعات بالانتقائية في إعادة بث أقواله). واتفق مديرو الحملة مع الصحافة على «استعارة» ميكرفون صغير يعلق في ياقة الجاكيت موصلا بجهاز إرسال في الجيب، من إحدى الشبكات يوميا، بالتناوب، يظل مع براون طوال اليوم وتنقل جميع المحطات مقابلاته بحيث لا تنفرد إحداها بما يقول. ويوم الأربعاء كان الدور على ميكرفون شبكة «سكاي».

يوم الأربعاء وجدت المسز دافيي نفسها أمام رئيس الوزراء، في حوار لسبع دقائق، حول قلقها من ديون البلاد، وعدم كفاية المعاش الحكومي لسد الاحتياجات اليومية، وعدم قدرة الأسرة على دفع مصاريف الجامعة لحفيديها. وضغطت على وتر حساس حول الهجرة، تتحاشاه الأحزاب الثلاثة الكبرى، وتلعب عليه الجماعات العنصرية. المسز دافيي لم تعبر عن اتجاهات عنصرية بل كررت ما يهمس به ملايين الناخبين عن ازدياد المهاجرين من أوروبا الشرقية، وأجاب رئيس الوزارة بلباقة: وصول مليون من أوروبا الشرقية للعمل في بريطانيا يقابله تحرك عدد مماثل من البريطانيين للعمل في أوروبا، ووضع ذراعه حول كتفيها وصافحها مودعا مبتسما.

المسز دافيي قالت للصحافيين الذين التفوا حولها فور مغادرة براون إنه رجل طيب، وإنها، مثلما فعلت طوال حياتها، ستمنح صوتها للعمال.

ومثل المونتاج السينمائي المثير، انتقل المشهد إلى رئيس الوزراء. بعد مصافحته المسز دافيي استقل سيارته ناسيا أن يقفل الميكروفون، وقال لأحد مساعديه إن لقاءه بالأرملة كان «كارثة» (رغم أنه من ناحية التحليل الصحافي كان إيجابيا لصالحه)، وتساءل من المسؤول عن وضعها في طريقه، و«يجب ألا يضعوا شخصيات مثلها معه علنا». ولما سأله مساعده ماذا قالت المسز دافيي ليضايقه؟ أجاب بأنها من النوع المتعنت غير المتسامح (ترجمة مفهومية لكلمة Bigot)؛ كل هذا والميكرفون يرسل صوت رئيس الوزراء إلى أجهزة تسجيل عشر محطات تلفزيونية وإذاعية.

زميلنا نيل باترسون (وهو بالمناسبة اسكوتلندي «بلديات» براون لكن ذلك لم يمنعه من توجيه أكثر الطعنات ألما في حياة براون السياسية لزوم الولاء للمهنة أولا)، مراسل «سكاي» المصاحب لبراون، اصطحب المسز دافيي إلى عربة الأستوديو المتنقل، ووراءها رهط من الصحافيين، لتستمع بنفسها إلى براون بصوته يغتابها في الوقت نفسه الذي كانت تمتدحه من وراء ظهره.

طبعا جن جنون الأرملة، وقالت إنها لن تمنحه صوتها، وأذاعت المحطات كلها الشريط، بما فيها محطة «راديو 2» التابعة لـ«بي بي سي» بينما براون في الاستوديو، غير واع لوجود كاميرا إنترنت في الاستوديو وهو يضع يديه بين رأسه في أسى (تماثل لطم امرأة لخديها في الثقافة المصرية).

شارع الصحافة الإنجليزي بأكمله ومحطات التلفزيون عسكرت أمام منزل الأرملة دافيي المتواضع، وبراون لم يكتف بالاعتذار تليفونيا لناخبة غاضبة، بل توجه بنفسه إلى منزلها للاعتذار عما اعتبره «ذنبا لا يغتفر وفعلا قبيحا ندم عليه» مثلما قال للصحافة مبتسما طوال (وهو أمر يدعو للريبة، فالابتسام ليس من طبيعة الرجل).

رئيس وزراء بريطانيا الذي استغرق اجتماعه مع الرئيس الأميركي 20 دقيقة فقط، قضى ثلاثة أرباع الساعة في منزل أرملة من الطبقة الفقيرة يعتذر لها في ندم وأسى طالبا الصفح والمعذرة.

ولا أسوق هذه الحكاية للمقارنة بين الثقافات المختلفة. فلكل مجتمع خصوصياته، لكن المسز دافيي، والمستر براون وزميلنا، باترسون ومعاصرنا سنو أبناء ثقافة واحدة، ليست الثقافة البريطانية، وإنما ثقافة الديمقراطية الغربية؛ ثقافة تتساوى فيها الأرملة الفقيرة، التي تتقاضى معاش الدولة، في الحقوق مع رئيس الوزارة.

فالديمقراطية ثقافة، مفرداتها ممارسة وتقاليد عريقة وأسلوب حياة وليست ظاهرة تفرض بقرار سياسي من حاكم مستنير وتنتهي برحيله؛ وحادثة الأربعاء أثبتت أن كل عناصر الديمقراطية من سيادة القانون والانتخابات وحرية تكوين الأحزاب والبرلمان والقضاء المستقل مجتمعة تساوي صفرا من دون صحافة حرة متعددة الملكية الخاصة لحملة أسهم، كسلطة رابعة تضع زعيم الأمة في دقائق في قفص الاتهام، والرأي العام هو القاضي والمحلفون؛ والناخب منفذ الحكم.