العالم العربي: أزمة وطن.. أم أزمة قيم؟

TT

نعيش اليوم في عالمنا العربي مفارقات عجيبة على مستوى القيم تصل إلى حد الأزمة. تتجلى في بعض مظاهر السلوك المضطرب قيميا، على مستوى الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام وبعض رجال السياسة والمنتسبين للدين. وسأكتفي بعرض مثال واحد يكشف هذه المفارقة.

نلاحظ اليوم كثيرا من الطرح الذي يعزف عزفا حادا على الوطنية، بل ويصل أحيانا إلى المزايدة والتحريض. أصبحت راية الوطنية والولاء للوطن هي الراية التي يرفعها بعض السياسيين لإسقاط خصومهم في الحملات الانتخابية، وتبرير القتل على الهوية، وربما يتدثر خلفها كل من يحمل فكرة ويريد أن يفرضها على غيره، أو يوهم من يتابع تبريراته بأن مخالفه ناقص الوطنية، أو غير عابئ بترسيخ الولاء وتنمية روح المواطنة! مع أن المسألة لا تعدو كونها وجهات نظر محتملة، لا تخلو من جانبي السلب والإيجاب.

فلماذا يتم إقحام الولاء والانتماء للوطن، تلك القيمة المشتركة بين الجميع، بهذه الطريقة الاستغلالية والإقصائية؟! لعل هذا يفسر لنا الفرق الكبير بين ما نعيشه اليوم وما كان عليه آباؤنا المؤسسون، الذين شيدوا صروح أوطاننا، فقد تشربوا الولاء للوطن قبل الفطام وبعده. كان الوطن يجري في عروقهم مجرى الدم، لذلك صنعوا تاريخ أوطانهم، وإلا ما الذي جعل فارسا عربيا في العشرينات من عمره وهو الملك عبد العزيز - رحمه الله - يشق هو ورجاله الصحارى الجرداء في جزيرة العرب وعلى ظهور الخيل والجمال، لاستعادة وتوحيد وطن؟ إنها القيم، الدينية والاجتماعية الجامعة لا المفرقة، التي رسخت الولاء والعشق للوطن!! كانوا يرسخون القيم في مساقها الصحيح، ولا يخرجونها عن مساقها مهما كان الاختلاف بينهم، وإن شذ من شذ. لأن التترس بالقيم المشتركة يعني تحويلها إلى مكتسبات شخصية.

نخشى أن يؤدي ذلك إلى تشرب الأجيال المقبلة للقيم في سياق التحزب السياسي والطائفي أو التظليل والخوف والتقليد، بدلا من الحب والشعور بالانتماء. ولا بد لحل هذه المشكلة من تخليص القيمة في ذاتها من الشوائب والمصالح الشخصية أو الحزبية والطائفية، وأن نعيد دوران القيم حول الأفكار، لا الأشخاص أو الأشياء.

ثم الالتفات إلى الروافد الدينية والاجتماعية والثقافية الجامعة، التي تصب اليوم في خارطة القيم المعززة للولاء للوطن، فتشكل سماتها، وتعيد ترتيبها.

إن تنوع تلك المشارب وتعارض أهدافها واختلاف رسائلها الموجهة، يؤدي بلا شك إلى الاضطراب والتناقض الذي أشرنا إليه - ابتداء - بأنه مفارقة عجيبة نعيشها اليوم، ووصفناها بأنها أزمة.

لقد دفعت هذه الأزمة الشباب الصاعد في عالمنا العربي إلى الحيرة في أمره، وذلك حينما يبحث عن نموذج القدوة، فلا يجد النموذج المثالي في خطه الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه، وإنما يجد حروبا فكرية وطائفية متطرفة، كل يحاول إسقاط الآخر باسم الوطنية، فأصبح لا يفرق بين الوطني واللاوطني، لأن جل الخطابات توهمه بأنها وطنية! فيلجئه ذلك إلى التلقف من خلال روافد خارجة عن سياق المجتمع والدولة، سواء عبر الفضائيات، أو الشبكة العنكبوتية، أو غيرهما من روافد خارجية جاذبة ومستهدفة له، لتسهم بفاعلية في ضعف الانتماء وتهميش الولاء للوطن. وتلك هي اللبنة الأولى في مشروع التجنيد ضد الوطن.

هنالك في عالمنا العربي اليوم، بكل تأكيد، نماذج تستحق الإشادة والتقدير والاحترام، لكنها شمعة ضعيفة في نفق طويل شبه مظلم. كانت هناك شموع كثيرة، لكن أطفأتها المراهقات السياسية، والمناكفات الفكرية المتطرفة، وتصفية حسابات شخصية، حزبية وطائفية، على حساب مستقبل ونهضة وطن.. فهل من أمل؟