القدس.. واغوثاه.. واغوثاه!

TT

الله أكبر.. الله أكبر.. فقد بلغ السيل الزُّبى!.. وبدلا من الاحتجاجات التي كنا نعلنها والشجب والتنديد، أصبحنا نبكي القدس وهي تضيع وتهود أمام أعيننا بشتى ألوان الاعتداء والظلم، من هدم وحفريات تكاد تقوض المسجد الأقصى وتعبث بقواعد المسجد، بل وبكل تلك الآثار الخالدة أمام أعيننا!.. هكذا وصل الأمر، وغدونا أمة لا حول لها ولا قوة، وصدم عقلاء الأمة وهم يرون هذا الاعتداء المستمر، وهذه الخطوات المتتالية تتم تحت أنظار الأمة الإسلامية، وقد أصبحنا نظن - بل أصبحنا نعتقد - أن الشجب والتنديد هو كل ما بقي لنا من سلاح للدفاع عن هذا القدس الشريف، ولعل السؤال المهم هنا: من المسؤول على وصولنا إلى هذه الحال؟!

والله إنها لفضيحة كبرى في التاريخ أن تبقى أمة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي تزيد على ألف وخمسمائة مليون تتفرج، والقدس تعبث بها هذه الأيدي الظالمة، وكأننا نسينا مكانة القدس وواجبنا نحوها، وقد علمنا رب العزة والجلال أن هذا المسجد وقبلة المسلمين في مكة المكرمة بمنزلة واحدة، فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وكل طائف بالبيت لا بد أن يشعر بالألم، وهو يحس أن هذا الحرم وأول قبلة للمسلمين يضيع من بين أيديهم، مع أن الله - سبحانه وتعالى - قد حملنا مسؤولية الدفاع عنه في إطار القيم العظمى لهذه الأمة، لأنه مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وجاءت الآية واضحة «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ». وهو عقيدة من عقائد الإسلام، لأن هذا الرباط بين القدس والحرم المكي الشريف يمثل الرباط الذي هو رمز لوحدة دين الله الواحد، من آدم إلى محمد - صلى الله عليهما وسلم - ولهذا فالمسلمون انطلاقا من وحدة الدين يؤمنون بكل النبوات والرسالات ويصلون ويسلمون على كل أنبياء الله والمرسلين.

أيضا القدس رمز في العقيدة الإسلامية لمعجزة الإسراء والمعراج، فنحن نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقع عليه التحدي بالإعجاز القرآني دون غيره، لكن هذا الإعجاز القرآني قد تضمن معجزة الإسراء والمعراج، الإسراء من الحرم المكي الشريف إلى الحرم القدسي الشريف، والمعراج من الحرم القدسي الشريف إلى السماء، إذن القدس في العقيدة الإسلامية تمثل عقيدة دينية وليست مجرد أرض يمكن أن تغني عنها أرض أخرى لأن لها هذا البعد الديني الذي تمثل وتجسد في الفكر الإسلامي وفي الواقع الإسلامي وفي التاريخ الإسلامي وفي الحضارة الإسلامية على مر التاريخ منذ نزول القرآن ومنذ الإسراء والمعراج إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وهي فعلا ليست مجرد أرض يمكن أن نستغني عنها بأرض أخرى، ولكنه قضية من قضايا عقيدتنا، وهو قضية أساسية في حياتنا، ومن واجبنا أن ندافع عنها وألا نتركها تضيع هكذا ونحن نتفرج، ونقبل الظلم الذي لن تغفره لنا الأجيال القادمة.

إننا نحتاج إلى أن تعي أمتنا مسؤولياتها، وتدرك خطورة ما يجري، وهذا الأمر جعلنا نجأر إلى الله ونسأله الغوث سبحانه وتعالى، وأن ينصرنا على أنفسنا، فقد هزمنا العدو الصهيوني عسكريا وإعلاميا، وأصبحوا يزورون الحقائق أمام العالم وتحت أعيننا، واستطاعوا الوصول إلى منابع الأخبار، وركبوا ثورة الاتصال وزوروا الحقائق في غفلة منا، وأشعروا العالم بأن القدس لهم لأنهم كانوا يصلون فيها. وكأن كل من يصلي في مكان أو مدينة تصير ملكا له، وتجاهلوا حقائق آلاف السنين، وضحكوا على العالم بأكاذيب زائفة، ونحن في غفلة، بل في سبات عميق !

ثم جاءت فرية أخرى، وهي ادعاؤهم بأن القدس يهودية، وأن سيدنا موسى - عليه السلام - عاش فيها ودفن فيها، وهذا كذب وافتراء، ولكنهم ينشرونه ويصل إلى الناس، ونحن لا نحاول إلا في أطر ضيقة وعلى استحياء الوصول إلى العالم لإيضاح هذه الحقيقة، بأن القدس عربية قبل سيدنا إبراهيم بـ21 قرنا. وكما يقول أخي الدكتور محمد عمارة: «هل هناك حق لليهود ولليهودية في القدس وفي فلسطين؟ إن اليهودية هي شريعة سيدنا موسى - عليه السلام - وسيدنا موسى ولد ونشأ وبعث ومات ودفن في مصر، ونزلت عليه التوراة بالهيروغليفية، قبل نشأة العبرية التي هي لهجة كنعانية بأكثر من مائة سنة، لأن العبرية لم تنشأ إلا بعد دخول بني إسرائيل غزاة إلى أرض كنعان، إذن موسى لم ير القدس، ولم تر عينه القدس، ولم تطأ قدمه القدس، ولم تنزل عليه اليهودية في القدس، وبالتالي لا علاقة لليهودية إطلاقا بالقدس، ثم إن سيدنا موسى عاش في القرن السادس عشر قبل الميلاد، يعني أن القدس عربية على مدى أربعين قرنا قبل سيدنا موسى الذي عاش في القرن السادس عشر قبل الميلاد، إذن لا وجود لأي حق ليهودي على أرض القدس أو على أرض فلسطين، لأن - كما ذكرت - اليهودية جاءت ونشأت في القرن السادس عشر قبل الميلاد، ومات موسى ودفن في مصر ولم تر عينه القدس، ودخلوا بعد ذلك بقيادة يوشع بن نون غزاة مدمرين، والوجود اليهودي عبر التاريخ في القدس لم يتعد أربعة قرون أو تزيد قليلا، في عهد داود وفي عهد سليمان اللذين يعتبران في التراث اليهودي ملوكا وليسوا أنبياء ولا مرسلين، في القرن العاشر قبل الميلاد يعني بعد ثلاثين قرنا من بناء القدس وعروبة القدس، فأين هي حقوق اليهود التاريخية في القدس؟».

إن خطورة ما يجري الآن في القدس هي أن الخطوة الراهنة أشد وأقسى من كل الخطوات السابقة، فقد بدأوا في منع المسلمين من الصلاة في المسجد بين وقت وآخر، وضربهم وإيذائهم، وأخذوا في تخريب المسجد تمهيدا لهدمه، ونسينا نحن أن القوة الإعلامية اليوم أصبحت قوة خطيرة في تصحيح المفاهيم حتى روجوا لقضية حائط المبكى، مع أن التاريخ يذكر أن هذا الحائط الذي يدعونه هو تزوير آخر وقصة مختلقة، حيث لم تكن القدس أصلا من أولويات الدعاية الصهيونية كما يقول الأستاذ قاسم عبده قاسم: « منذ أن بدا تيودور هرتزل داعيا اليهود إلى تركيز الدعاية الصهيونية على قضايا ذات قوة إعلامية تصل إلى الطرف الآخر، وتشوه صورة الإنسان العربي بشكل سلبي، وأدخلوا قضية حائط المبكى لدرجة أنها رفعت إلى عصبة الأمم المتحدة، وحكم فيها سنة 1928م بأن هذه الأرض ملك لعائلة أبو دومان في فلسطين، وأنها وقف إسلامي، وقصتها الحقيقية أن السلطان سليمان القانوني لما بلغه أن المشكلات كثيرة من اليهود، أمر أن يبنى لهم جزء على الحائط الغربي، بعكس الادعاء التاريخي الذي يزورونه بأن الهيكل كان موجودا في الجانب الشرقي من المدينة، وانطلقوا من هنا يستخدمونه إعلاميا، ويركزون في الدعاية، ونحن لا نسعى لكشف هذه الحقائق التاريخية، حتى أن بعض كتابنا ناهيك عن طلابنا وأجيالنا لا يعرفون شيئا عن ذلك، وكما يقول الأستاذ قاسم عبده قاسم إن جميع الحفريات التي قامت بها إسرائيل لتختلق قصة إسرائيل القديمة لم توضح إلا اكتشاف آثار فلسطينية وكنعانية أكدت على أن هذه الأرض عربية.

إنها غيبتنا عن ثقافة القدس وقصورنا الإعلامي وموقفنا كمتفرجين، ولم ننقل هذه الحقائق إلى مناهجنا وطلابنا، بأن قبة الصخرة ليست مسجدا، بل هي بناء جمالي تقع تحته الصخرة التي عرج منها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الذي بناها هو الوليد بن عبد الملك وليس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأن مسجد عمر يقع إلى الغرب من المسجد الأقصى جنوب كنيسة القيامة، حيث صلى سيدنا عمر ورفض دعوة أمناء الكنيسة أن يصلي فيها لئلا تتخذ مسجدا ولتبقى كنيسة، والمسجد الأقصى مجاور وقريب من قبة الصخرة، وهناك الحرم القدسي وهو يضم منشآت كثيرة تحت الأرض. ومن المفروض أن ننشر هذه المعلومات بوسائل إعلامية قوية لتصل إلى كل العالم الذي لا يعرف القدس إلا كما تروج له الدعاية الصهيونية.

إن إسرائيل عمدت إلى تهويد القدس وطرحت أمام العالم معلومات لم نستطع تصحيحها ووقفنا موقف العاجز على الرغم من أن هناك حقائق مهمة لا بد أن تصل إلى العالم: «فقد كان عدد اليهود في فلسـطين 55 ألفا بنسبة 8% من السـكان ويملكون نصف مليون دونم بنسبة 2% من الأرض، وفي سنة 1948م عند إقامة إسرائيل كان عدد اليهود 646 ألفا ونسبتهم 31% - بعد كل ما صنعه الانتداب والإنجليز - ويملكون مليون وثمانمائة ألف دونم بنسبة 6% من أرض فلسطين، وجاء قرار التقسيم ليعطي لمن يملك 6% من الأرض 54% من أرض فلسطين وترك للعرب الذين يملكون 94% ما تبقى، ثم بعد ذلك نقضوا المعاهدات والهدنة واحتلوا كل شيء في فلسطين».

أشعر بأني أوافق مفكرنا الصديق والعالم الإنسان الدكتور محمد عمارة عندما قال: «إن واجب المسلمين إزاء هذا الذي يحدث من تفريغ للقدس من عروبتها وإسلامها وتهويدها واحتكارها، أنا أقول لهؤلاء، وعلى وجه الخصوص كتابنا، ماذا صنعتم للقدس؟ وماذا كتبتم عن القدس؟ ولناشرينا ماذا نشرتم من الكتب عن القدس؟ ولمساجدنا أين مكان القدس على منابرها ودروسها؟ ولمناهجنا التعليمية أين مكانة القدس في هذه المناهج؟ ولجوائزنا التي تعطى للإبداعات أين مكانة القدس فيها؟ ولصحافتنا وفضائياتنا أين مكانة القدس فيها؟ أين قصص الأطفال التي تتحدث عن القدس وتاريخ القدس وعروبة القدس؟ أين القصص التي تتحدث عن عمر بن الخطاب، الذي دخل القدس فوجد الرومان قد أحالوا أماكنها المقدسة إلى أماكن للنفايات، فكان يفرش رداءه ومعه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعادوا الطهر والطهارة إلى الأماكن المقدسة في فلسطين وفي القدس؟ أين هذا من ثقافة المسلمين والعرب؟ أين الكلام عن صلاح الدين؟ صلاح الدين الذي طبق العقيدة الإسلامية فيما يتعلق بالقدس، وكتب إلى ريتشارد قلب الأسد يقول له: (القدس إرثنا كما هي إرثكم، من القدس عرج نبينا إلى السماء وفي القدس تجتمع الملائكة، لا تفكر في أنه يمكن لنا أن نتخلى عنها كأمة مسلمة، أما بالنسبة إلى الأرض فإن احتلالكم لها كان في فترة فيها السلطة ضعيفة). عقيدة الإسلام عبر عنها صلاح الدين وهو يتحدث إلى ريتشارد قلب الأسد الملك الصليبي يقول: (ولن يمكنكم الله أن تشيدوا حجرا واحدا فيها)».

وهناك نقطة مهمة في الحقيقة، إن الصهاينة ومن خلفهم من اليهود المتعصبين نجحوا في إبعاد الأمة العربية والإسلامية عن القدس، والقرب من القدس، وأصبحوا يمنعون حتى الفلسطينيين الذين تزيد أعمارهم فوق الأربعين أو الخمسين من الصلاة في القدس، وتخاذلنا نحن حتى عن الدفاع عن هذا الحق، مع أننا من واجبنا أن نربط أولادنا بالقدس، وأتمنى لو تتاح الفرصة لمعاشر المسلمين أن يزوروا القدس، ليظلوا على اتصال بها حتى لو استغللنا قوتنا وعلاقاتنا الاقتصادية لدعم مطلب وحق حضاري، وهو السماح لنا ولأولادنا بزيارة القدس وعندها نربط أنفسنا وأولادنا بهذا القدس الشريف وهذا التاريخ العظيم.

أحسب أنه قد آن الأوان للاعتماد على قوانا بكل ألوانها، وخاصة قوانا الإعلامية وتنظيمها بصورة توضح للعالم كارثة القدس، وإبعاد الظلم الذي وقع علينا، وعلى الأقل تصحيح المعلومات الخاطئة التي تنشر عنا في الإعلام الصهيوني والغربي المتواطئ مع الصهيونية، حتى قلبوا الحقائق، وصوروا أنفسهم على أنهم ضحايا، ونحن الجلادون، واعتمدوا على فنون إعلامية، وصلوا بها إلى عقول الأطفال والناشئة في الغرب، وأخذوا ينقلون بعض انفعالاتنا كدليل على أننا نحن الذين نظلم، ونحن الذين نشرد، ونحن الذين نرفض السلام.

إن الحقيقة تظل في النهاية أن إسرائيل تجمع قواها وتوحد صفوفها ونحن نشتت جهودنا ونتخلى عن حقوقنا ونعطيها الفرصة لمزيد من الظلم والعناد والتهويد والاحتلال، ولا نستغل أي قوى لا عسكرية ولا إعلامية ولا اقتصادية من أجل الدفاع عن هذا القدس الشريف وعن هذه الحقوق التي اغتصبها هؤلاء المستعمرون منا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

وختاما، فالقدس أمانة في أعناقنا جميعا، ولا بد من عمل منظم ومستمر ومتابعة حقيقية واستنفار لطاقاتنا، واستغلال علاقاتنا بالدول، وتحريك سفاراتنا ومؤسساتنا في الخارج، ليعلم الناس حقيقة ما يجري من كوارث وتعمد تهويد القدس وإزالة معالمها والعبث بالمسجد الأقصى، ونحن في ضجيج وحوار لا طائل خلفه، وكأننا لم نقرأ قول الحق عز وجل: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»، وقوله تعالى: «فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ».

مدوا أيديكم إلى العالم ليعرف الحقيقة، وصححوا خطواتنا ولنناد رب العالمين: اللهم إليك نشكو ضعفنا وجهلنا وهواننا على الناس.. اللهم انصرنا وسامحنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم غوثاه.. اللهم غوثاه من عندك، فالقدس تهود وتضيع من أيدينا ونحن في غفلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* وزير الإعلام

السعودي الأسبق