نقاب يحجب البصر.. ونقاب يحجب البصيرة

TT

الحجاب، المآذن، الرجل الطبيب، النقاب، المطعم الحلال، تعدد الزوجات، وغيرها من المحطات المثيرة، شكّلت في السنوات الأخيرة مادة إعلامية مثيرة قد يصعب على المتابع من الخارج فهم أبعادها وأبعاد الضجيج من حولها، بل قد يستغرب البعض هذا الهوس العلماني وكانوا يحسبون أن الهوس لا يكون إلا دينيا بالضرورة. ما سر هذا الاهتمام المبالغ فيه بالدين الإسلامي وهو بمنطق التاريخ الوضعي أمر زائل لا محالة؟

نعتقد أنه من الضروري فهم الإطار العام والخيط الناظم لكل هذه المحطات. النخب الفكرية عامة والتربوية تحديدا، منزعجة أشد الانزعاج من الحالة التي آل إليها الإسلام في الغرب، والمتمثلة في هذا الانبعاث الجديد. لقد كان من المتوقع في نظرهم أن يشيخ الإسلام كما شاخت الأديان الأخرى ويتحول إلى مجرد طقوس موسمية لا حياة فيها، ولذلك لم يتفاعلوا بتشنج مع ذات المظاهر الإسلامية التي صاحبت وجود العمال المهاجرين بكثافة منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي. ذلك لأنهم كانوا ينظرون لها بوصفها مخلفات العهد البائد أو مجرد خطوط خلفية من أشكال الصمود الواهي سيجرفها تيار الحداثة. ولكن عندما أصبحت عند البعض من أبناء الجيل الثاني والثالث - ومعظمهم من الفرنسيين ولادة - أصبحت مثار جدل لا يتوقف، لم يفلح هذا الجدل الساخن الذي بدأ منذ ربع قرن في إيقاف هذه الحيوية المتجددة للإسلام في الغرب، فسلموا بوجوده واقعا ولكنهم عقدوا العزم على أن يأخذ سمتا أوروبيا وفق قالب يُعدُّ له سلفا، بحيث يتم تحجيم كل مظاهره الخارجية البارزة ما استقام منها وما اعوج.

بدأت هذه الفزّاعة في العمل، ولا تمر فترة من الزمن إلا ويقع النفخ الإعلامي المرئي والمسموع والمكتوب في مسألة جدّ هامشية. وما إن تهدأ العاصفة حتى تنطلق من جديد محذرة من المسلمين الذين يتربصون بالعلمانية ويهددون الجمهورية.

لا يحضر الإسلام والمسلمون في وسائل الإعلام إلا في قفص الاتهام ولعل المرة الوحيدة التي حضر فيها الإسلام حضورا إيجابيا كان إبان الأزمة المالية الأخيرة حيث جرت على ألسنة بعض المسؤولين كلمات توحي بأن المالية الإسلامية، التي جُرّدت من إطارها الاقتصادي الإسلامي، من الممكن أن تسهم في عافية مأمولة للاقتصاد الرأسمالي.

في هذا الإطار يجب أن تُفهم مسألة النقاب المثارة حاليا في فرنسا وفي عدد من الدول الأوروبية.

لا يتسع المجال هنا للحديث عن الحكم الشرعي للنقاب، فقد اختلف العلماء فيه قديما كما اختلفوا فيه حديثا، ومهما كانت قناعتنا بوجهة نظر معينة فإنه من العبث فرضها بالقوة أو بالقانون. تستطيع الجمهورية أن تمنع تكوين حزب ملكي ولكنها لن تستطيع أن تمنع القناعة الفردية بذلك، كما استطاعت الديمقراطية الأميركية أن تمنع تكوين حزب شيوعي ولكنها لن تُفلح في نزع بذرة الفكر اليساري من الذين اقتنعوا بجدواه.

وحده الجدال بالتي هي أحسن والتحليل المقنع يمكن أن يغير قناعات الأفراد. ولذلك ستركز هذه المقالة على الجانب الحقوقي لهذه المسألة. دعونا أولا نستعرض الوقائع كما عاشتها الساحة الفرنسية. مجموعة من النساء المسلمات محدودة العدد، لا يتجاوز الألفين بحسب التقديرات التي قدمها وزير الداخلية، وإن كان ذلك لا يغير شيئا من طبيعة المشكلة، اختارت النقاب باعتباره الزي الشرعي الأتم في تصورهن.

انطلقت المسألة بالتلويح بتقديم مشروع قانون لمنع النقاب بدعوى أنه مهين للمرأة وأنه مفروض عليها من الإطار العائلي المتمثل في الأب أو الزوج أو الأخ الأكبر، وبدعوى أن تغطية الوجه لا تساعد القوى الأمنية على حماية المواطنين من الإرهابيين الذين بإمكانهم استخدام النقاب لأعمال إرهابية.

هدأت عاصفة النقاب أثناء حملة الانتخابات الجهوية (المحلية)، وحل محلها النقاش حول الهوية الوطنية. وكان الغرض من ذلك كسب أصوات أقصى اليمين، وجاءت النتيجة مخيبة للحكومة على جبهتين: انتصار كاسح للمعارضة اليسارية المتمثلة أساسا في الحزب الاشتراكي وعودة قوية لحزب أقصى اليمين نسبة لعدد أصوات الناخبين. وفي استطلاعات الرأي التي أعقبت الانتخابات عبر ثلثا الفرنسيين عن عدم رغبتهم في ترشح ساركوزي لفترة ثانية للانتخابات الرئاسية التي ستجري في 2012، فكان لا بد إذن من تفعيل ورقة البعبع الإسلامي.

على الرغم من موقف مجلس الدولة الذي منع استصدار قانون منع النقاب فقد أمر الرئيس ساركوزي بمناقشة مشروع قرار المنع في مجلس النواب بل وسّع من دائرة تطبيقه ليشمل كل الفضاء العام بعدما كان مقتصرا على المؤسسات الحكومية، مع العلم أن مؤيدي المنع الشامل للنقاب لا يتجاوز ثلثي الفرنسيين.

في أثناء هذا الجدل الدائر حول النقاب الإسلامي يقع تغريم امرأة منقبة بـ22 يورو بسبب مخالفة مرورية تمثلت في قيادة سيارتها منقبة الوجه ولكنها مكشوفة العينين وهو ما اُعتبر خطرا على حياتها وحياة من يشاركها الطريق.. ولا ندري لماذا لجأت المرأة إلى الصحافة لتدافع عن نفسها؟

وفجأة يتبين أن زوجها «متطرف»، على الرغم من أنه ينتمي لحركة التبليغ، وهي حركة مصنّفة على أنها سلمية بمعايير وزارة الداخلية، ومتزوج بأربع زوجات، خلّف منهن 12 ولدا ويتمتع بمنح اجتماعية بصورة غير قانونية، حسب ما تقول الداخلية الفرنسية.

وبمجرد إثارة موضوع تعدد الزوجات سارع وزير الداخلية في خطوة غير مدروسة إلى مطالبة وزير الهجرة بالنظر في إمكانية نزع الجنسية عن الزوج. وهكذا في بلد سارتر الذي كان يردد بصوت عال عقيدته الثلاثية المتمثلة في: تعدد الزوجات والوضوح والسياحة والذي نحت مصطلح «الحب الضروري» الذي خص به صديقته سيمون دي بوفوار و«حب الأطراف» الذي وزعه على كثير من عشيقاته، تتحول حالات تعدد الزوجات إلى جرم جنائي عندما تنشأ خارج الفضاء العلماني. لسنا من مؤيدي تعدد الزوجات، ولكن نكره اللعب على الألفاظ وإبداء دهشة واستغراب مفتعلين من ظاهرة جد معلومة من السلطات الفرنسية ومنذ زمن طويل. ولذلك لم يتردد الزعيم الاشتراكي جوليان دراي في اتهام الحكومة بـ«تركيب سيناريو لتهييج الإعلام». يبدو أن كل الحجج التي تقدمها الحكومة لا تستقيم واقعا حيث لم يستخدم النقاب إطلاقا في عمل إرهابي ولم يثبت قضائيا أن هناك حالات فرض للنقاب على المنتقبات، ولم يسبق أن اشتكى فرنسيون من النقاب باعتباره مستفزا لشعورهم.

مثل هذه القوانين الزاجرة لحرية الأفراد لا تستطيع أن تعالج هذه القضايا ذات البعد التعبّدي، ولا تساعد عقلاء المسلمين على إقناع المتشددين بضرورة اختيار الأيسر عندما يُخيرون بين أمرين. ومن الضروري أن يعمل عقلاء الجمهورية على إيقاف هذه النزعة الانقلابية التي أعمى بصيرتها أوهام الخوف من الإسلام فنالت من الأسس التي قامت عليها الجمهورية نفسها.

* أستاذ في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس