المناورات لك يا جارة

TT

لكي لا تعلو العين على الحاجب، أو تختلط الأوراق، من الضروري أن أوضح أن اهتمامي بموضوع هذا المقال وهو مناورات الحرس الثوري الإيراني البحرية الأخيرة، ليس نابعا من خبرتي العسكرية إذ لا خبرة لي في هذا المجال؛ ولو أن جنرالا محترفا قرأ ما أكتبه ففي الغالب سوف يضحك إلى أن يستلقي على قفاه. كما أعترف بعجزي عن تقديم تحليل سياسي أو فكري لها فليس هذا عملي، أنا أنظر للأمر كله كمسرحي يراقب أبطال عرض مسرحي وهم يلعبون أدوارهم محاولا الوصول إلى خارطة طريق تحدد طريقتهم في التفكير ومن ثم الأفعال التي سيقومون بها على المسرح، مسرح المنطقة ومسرح العالم، والآثار التي من الممكن أن تنتج عنها.

المرة الأولي التي سمعنا فيها عن الحرس الثوري كانت عندما حاصر أعضاؤه، ومنهم الرئيس أحمدي نجاد، السفارة الأميركية والعاملين بها شهورا طويلة، ثم بعد ذلك وعلى مدى عمر الحكم الثوري كله في إيران، لم نسمع أنهم قدموا إنجازا مجتمعيا للشعب الإيراني. والمناورات عادة تقوم بها الجيوش المحترفة بقيادة الجنرالات المحترفين، والهدف منها هو الاطمئنان إلى جهوزية القوات المسلحة وكفاءة تدريباتها وذلك للاطمئنان على قدراتها الدفاعية عند تعرض البلاد للخطر. المناورات التي يقودها - بالحتم - جنرالات محترفون إذن جزء من الحرفة العسكرية تلتزم بقيمها وما نسميه الشرف العسكري، حدث هذا على طول التاريخ وعرضه في كل بلاد الأرض وفي كل الحضارات. الاستعراض أو تهديد الآخرين، أو المباهاة، أو شغل الناس في الداخل، أو التغطية على مشكلات الناس الحقيقية، ليست ولم تكن هدفا للمناورات عند الجنرال المحترف.

غير أن أول ما يلفت النظر في هذه المناورات أن البحرية الإيرانية بجنرالاتها المحترفين لم تكن هي التي قامت بها، فهل حل الحرس الثوري محل القوات المسلحة في إيران؟ أم أن جماعة الحرس الثوري بمباركة النظام أصبحت لها اليد الطولى بما يهمش الجيش الإيراني ويفقده مقوماته كجيش محترف؟ أم أن القوات المسلحة ذابت في الحرس الثوري فأصبحا جسما واحدا تتحكم فيه الأفكار الثورية وحدها بكل قابليتها للمغامرة غير المحسوبة والمستندة إلى الاستهتار وعدم فهم الواقع، ما يشكل خطرا حقيقيا على أي نظام؟ الإجابة عن كل هذه الأسئلة تتطلب توافر معلومات من المستحيل أن توجد، إذا وجدت، إلا في أجهزة المعلومات. إذن بمقاييس العسكرية العلمية هذه ليست مناورات، بل هي حركة ثورية الهدف منها هو لفت أنظار أميركا والعالم إلى أن أي محاولة لعدوان عسكري على إيران سيترتب عليها احتلال الخليج، بما يعنيه ذلك من سيطرة على أهم مصدر للبترول في العالم.

بالطبع لم يصرح مسؤول إيراني بذلك، غير أنه كانت هناك تصريحات واضحة تحمل تهديدا أشد وضوحا، ومنها «لا تتكلموا عن الجزر التي قمنا باحتلالها»، «لا تساووا بيننا وبين إسرائيل التي احتلت أرضا عربية»، «لا داعي لإغضاب الشعب الإيراني».. لا بد أنك استمعت كثيرا لهذا النوع من التهديدات في المسرحيات الفكاهية بالتحديد، وذلك عندما يحاصر البطل الكوميديان متلبسا بفعل سيئ فيقول «باقول لك إيه.. كده حتزعلني.. وأنا لو زعلت، ما تعرفش حاعمل فيك إيه.. آه.. إوعى تزعلني.. عشان أنا زعلي وحش». إنها طريقة شهيرة للهروب من مناقشة أي قضية، والإفلات بغنيمة ما. غير أنه من المؤكد طبقا لكل المعطيات والحسابات السياسية والعسكرية، أن الغرب لن يتورع عن توجيه ضربات موجعة لإيران في اللحظات الأولى لهجوم محتمل على الخليج، من شأن هذه الضربات تدمير كل قواتها المسلحة، دروس الحرب العالمية الثانية ما زالت ماثلة في الأذهان، أذهان جنرالات الغرب المحترفين، ليس مسموحا لقوات العاصفة الألمانية - مرة ثانية - أن تتقدم لتحتل بلدان أوروبا واحدة بعد الأخرى.

كل ما تفعله حكومة السيد أحمدي نجاد الآن ليس أكثر من عملية «إشغال طريق» واستهلاك الوقت بأمل أن تفاجئ الغرب بأنها قد توصلت بالفعل إلى صنع قنبلة ذرية، ليس بهدف إطلاقها على أحد بل للتهديد باستخدامها للحصول على مكاسب. إذا حدث ذلك بالفعل وتوصلوا إلى صنع القنبلة الذرية فلا مفر من أن يتفاوض الغرب معهم، وتقديم حد أدنى من التنازلات التي لا يعرف مداها إلا الله. غير أن موقف إسرائيل في هذه الحالة سيكون مختلفا تماما عن موقف الغرب بالرغم من توحدهما في مساحات توافقية كثيرة.

هنا نعود مرة أخرى إلى سلاح المعلومات.. ماذا يعرف الغرب وماذا تعرف إسرائيل عن إيقاعات العمل في صنع هذه القنبلة؟ وما هي المساحة الزمنية التي تفصلها عن إتمام صنع هذه القنبلة؟ هناك بالفعل معلومات منشورة عن عناصر من العاملين في النشاط الذري الإيراني لجأوا لأميركا، بالتأكيد هم مصدر جيد للمعلومات، غير أنها معلومات قديمة مرت عليها عدة سنوات، لا أقول إن معلوماتهم لا أهمية لها، بل أقول إنها غير حاسمة في التعرف على الوقت الذي ستصل فيه إيران إلى صنعها.

من الغريب أن الفنان بخياله استطاع في كل مراحل التاريخ، أن يرى زوايا من الواقع مماثلة تماما لما ستأتي به الأيام بعد سنين طويلة. في نهاية الأربعينات وربما في بداية الخمسينات أنتجت السينما الأميركية فيلما باسم «زئير الفأر» عن إمارة صغيرة من إمارات وسط أوروبا استطاعت سرقة قنبلة ذرية وضعتها على ظهر مركب وأبحرت بها إلى الشاطئ الأميركي ثم أطلقت تهديداتها، ثم دخلت بعد ذلك في عملية تفاوض طويلة مع الحكومة الأميركية التي سلمت للإمارة بكل ما تطلبه على طول الخط، أين هو رجل السياسة الذي يجرؤ على معارضتك وأنت تشهر عليه قنبلة ذرية؟

المعرفة إذن، المستمدة من تدفق المعلومات وتحليلها، في هذه القضية ستلعب دورا حاسما، وهي المعلومات التي يتم الحصول عليها بطريقتين لا ثالث لهما، التكنولوجيا والبشر، وبالنسبة لنا في مصر لم نكن نتصور قبل هزيمة 1967 أن هناك أنواعا من التكنولوجيا لا نعرف عنها شيئا، وأنها قادرة على اختراق كل وسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية، ثم فوجئنا بالإذاعة الإسرائيلية تذيع في برامجها وبشكل متكرر ليلا ونهارا، نص مكالمة تليفونية دارت بين جمال عبد الناصر والمغفور له الملك حسين ملك الأردن، المكالمة كانت خطيرة للغاية، فبعد الهزيمة مباشرة أعلنت مصر أن الطيران الأميركي اشترك في المعركة ضد مصر، وهنا أذاعت إسرائيل نص المكالمة التي يتفق فيها عبد الناصر مع الملك حسين على ادعاء هذه الحكاية. هكذا، ومنذ خمسين عاما تقريبا كانت التكنولوجيا في منطقتنا قادرة على تسجيل مكالمة تليفونية المفترض أنها مؤمنة (Secured) بين ملك ورئيس جمهورية.. تُرى ما هو حال تكنولوجيا الغرب هذه الأيام؟

جهاز الاتصال الذي كان يستخدمه جيمس بوند في مغامراته الخيالية، يستخدمه الآن أي طفل في أصغر نجع أو قرية عربية، أجهزة التنصت والتصوير التي كنا نراها فقط في مسلسلات الجاسوسية، تباع الآن في شوارع المدن العربية. لقد تحول الفضاء الكوني إلى شبكة عنكبوتية من المخبرين والبصاصين، هذه هي التكنولوجيا التي أعرفها أنا وأنت وربما يلعب بها أطفالنا في الشارع.. ماذا عن تكنولوجيا الأجهزة المحترفة؟ إن مهمة حكومة السيد أحمدي نجاد في إخفاء المعلومات عن أجهزة الغرب، مهمة صعبة للغاية إن لم تكن مستحيلة.