إخفاق المؤسسات بين الضغوط والتقاعس

TT

بقدر ما يبدو مستحيلا على المؤسسات «المستقلة» في العراق أن تحافظ على استقلاليتها في ظل وضع سياسي شديد الاستقطاب وبمواجهة طبقة سياسية غير معنية كثيرا بترسيخ حكم المؤسسات، بقدر ما يبدو أن إخفاق تلك المؤسسات كان أيضا نتاجا لتقاعسها عن الارتقاء لمعنى وجدوى أن تكون مستقلة ومحايدة ومتمتعة بما يكفي بالمصداقية لتكون حكما بين الفرقاء السياسيين. لقد نقلت الطبقة السياسية معضلاتها إلى المؤسسات التي يفترض عملها أساسا ألا تكون مسيسة، وأدت طبيعة الصراع من حيث خلطه بين التقسيمات السياسية والتشكيلات العرقية والطائفية إلى خلق وضع يغدو فيه ضمان «استقلال» أعضاء تلك المؤسسات عن الميول السياسية المتصارعة أمرا صعبا، فلا يكفي ألا تكون منتظما بحزب معين لكي تغدو مستقلا في ظل استقطاب أصبحت فيه الانتماءات الاجتماعية مسيسة. ولكن من جانب آخر وعلى خلفية التجربة الانتخابية الراهنة يبدو أن تلك المؤسسات بدورها غير مدركة كثيرا لجسامة الدور الذي تضطلع به وغير معنية بترسيخ مصداقيتها. إن العملية الديمقراطية في العراق هشة إلى حد كبير وهي إن كانت وليدة الاستقطاب المجتمعي والسياسي فإنها أيضا قد تسقط ضحية له عندما يفقد أحد الأطراف قناعته بجدواها. العملية الديمقراطية بحاجة إلى ضابط معنوي قادر على احتواء هشاشتها لا سيما أن بعض أطرافها يتبنون منطق تهديم المعبد عند كل تحد خطير تواجهه.

ثلاث مؤسسات كانت معنية برعاية سلامة العملية الانتخابية وإدارتها باستقلال وحيادية وقدر عال من المصداقية، مفوضية الانتخابات وهيئة المساءلة والعدالة والهيئة الانتخابية القضائية. للأسف فإن المؤسسات الثلاث واجهت صعوبات كبيرة في عملها لأنها متهمة مسبقا من المتضررين، وهي في موضع ضغط هائل يكاد يشل قدرتها على الفعل المستقل والمحايد. ولكن من جهة أخرى فإنها لم تحاول بما يكفي ليس فقط لتحصين نفسها بل وأيضا للارتقاء إلى مستوى التحدي والتعامل مع وضع سياسي مأزوم تحكمه نظريات المؤامرة وممارساتها.

مفوضية الانتخابات لم تظهر ما يكفي من الحساسية تجاه خطورة الوضع ولم ترسل ما يكفي من التطمينات قبل وخلال وبعد العملية الانتخابية، ولم تتمتع بالمرونة الكافية غير تكرار ذات الخطوات التي اعتادتها في الانتخابات السابقة اعتمادا على نفس الآليات، كما أنها خلطت في مواقفها بين الحيادية واللامبالاة، فلا يكفي القول بأنك على مسافة واحدة من جميع المتنافسين، بل عليك أن تتعامل مع شراسة التنافس وأن تبدي حرصا استثنائيا ليس فقط على تحويل الأصوات إلى أرقام بل وعلى ضمان عدم ضياع تلك الأصوات أو إقحام أصوات مزيفة. وفي الوقت الذي كان يتوقع الكثيرون بأن قرارا بالعد والفرز اليدوي في مناطق معينة سيصدر بناء على كثرة الطعون، بدا أن المفوضية تعاملت مع مهمتها وكأنها منتهية بعد إعلان النتائج وقرر رؤساؤها أن يغادروا العراق في سياحة ترويحية تحت عنوان تصفية انتخابات الخارج!! واليوم يكتشفون أن هناك قرارا بالعد اليدوي ونكتشف أنهم لم يعدوا بعد نظاما لتنفيذه، ربما لأنهم ظلوا طوال هذه الفترة صدى لصوت موظفين دوليين بعقود مؤقتة هم أصحاب القرار الحقيقي.

أما هيئة المساءلة والعدالة فإن أزمتها وجودية، فمنذ قرار اجتثاث البعث قبل سبع سنوات وحتى اليوم ليس هناك وضوح في فلسفة وجودها وغاياته، وبدلا من أن تسعى إلى ضمان مصداقيتها كهيئة محايدة ومستقلة مسؤوليتها محاسبة من ارتكب جرائم تحت مظلة النظام السابق وكما يشي اسمها، بدت أسيرة للمد والجزر السياسيين وللبحث عن هوية وتعريف فاقمه لامبالاة البرلمان السابق وعدم قدرته على التوافق ليس فقط على تحديد جدواها بل وأيضا على تنفيذ الوعد بتحويلها إلى هيئة مهنية وذات طابع قضائي. لم تبد الهيئة ما يكفي من الحساسية تجاه خطورة الوضع وقررت تبني تعريف مضخم لمهامها وفلسفة متشددة في تطبيقها حتى صرنا نتساءل عما إذا كانت مهمتها محاربة البعثيين أم إعادة تأهيلهم عبر تحويلهم إلى ضحايا.

وأما الهيئة القضائية الانتخابية فربما كانت الأضعف في هذه الحلقة لأنها مثلت المهرب الذي تلجأ إليه الهيئتان السابقتان كلما استعصى عليهما الاتفاق أو اتخاذ القرار. إنها المكان الذي ينبغي فيه للقرار أن يتخذ وبالتالي هي موضع التربص والضغط والتهديد، ولذلك ربما تمتلك عذرا أكبر في عدم قدرتها على إرضاء الجميع أو الهروب من القرار، ولكن مجددا فإن تردد القضاء واستعجاله وربما عدم إلمامه بما يكفي بالتفاصيل الفنية يجعله ملاما هو الآخر.

رغم كل ذلك، يمكن للمؤسسات أن تتحسن وتثبت المزيد من المهنية والحيادية والاستقلالية، لكن في وضع مختلف تخف فيه حدة الاستقطاب وشراسة المواجهة لأنه بعد كل شيء فإن أزمة تلك المؤسسات تكمن في خارجها الذي يفرغ اختناقاته فيها جاعلا منها ساحة لصراعه، وذلك هو الذي يحتم عليها أن تكون حلقات للحل لا للتأزيم.