مذكرات سائق ورئيس جامعة

TT

عرفت الدكتور ميشال عاصي رئيسا للجامعة اللبنانية. وعرفته قبل ذلك مؤلفا وناقدا أدبيا ومحاضرا. وكنت أعرف، كما يعرف سواي، أنه عروبي بلا حدود ومن دعاة الوحدة وأنه لا يلين. وفي التفاصيل الأخرى أنه متزوج بمسلمة ومن المتحمسين للإسلام. هذا كل ما عرفته لأنني عرفت ميشال عاصي بعدما أصبح من الأكاديميين والكتاب البارزين في لبنان.

الجزء الأول من حياة الرجل لم أكن أعرفه إلا بعدما وقعتُ، بالمصادفة، على المذكرات التي تركها قبل رحيله بعنوان «من أيام الضوء والظلام». لم أكن أعرف أنه كان ينتعل حذاء مهترئا يسد «ثقوبه بقطع مقصوصة من صفائح التنك. ومع ذلك كنت من المحظوظين لأن كثيرين غيري كانوا حفاة».

ولم أكن أعرف أنه في طفولته «لم يكن لديّ ثوب مقبول لدخول المدرسة فاضطُرّت العائلة إلى تدبير أمر السروال من بقايا ثياب الوالد. أما السترة فقد تعذر التدبير إلا من سوق الثياب المستعملة المستوردة من الخارج». وأما الكتب والدفاتر التي توافرت له صغيرا «فكانت من ورق الكدش الذي يستعمله أصحاب الدكاكين واللحّامون وبائعو الفاكهة والخضار». وفي العاشرة من عمره لم يكن قد ذاق طعم التفاح بعد، فحاول أن يسرق تفاحة من أحد دكاكين زحلة، فضبطه صاحب الدكان وضربه ونادى المدينة تشهد على عاره. وبقي لا يجيد النطق إثر الحادثة إلى أن بلغ صف البكالوريا في المدرسة الليلية في المقاصد الإسلامية.

عندما حلم بشراء دراجة عتيقة كان عليه أن يعمل، فما الأشغال التي مارسها؟ «اشتغلت على التوالي في محل للحلاقة أكشّ الذباب بكشّاشة الورق، عن ذقون الزبائن ووجوههم، وأكنس الشعر المتساقط عن الأرض، وأملأ أباريق الماء من الحاووز المجاور. وعملت في محل للحدادة العربية، لدى أحد الحدادين المشهورين، أنفخ الكور بالمنفاخ الجلدي الكبير، وأناوله ما يحتاج إليه لضرب الحديد وتطويعه من آلات وأدوات، فضلا عن ملء الإبريق ورش الماء أمام المحل في ساعات الراحة وجلب الغداء من المنزل. كما عملت في محل أحد اللحّامين، أحضر البصل والبقدونس، ولم يفتني العمل في محل للتجارة».

لم تكن هذه هي المهن الوحيدة. فعندما يكبر قليلا سوف يساعده والده في قيادة شاحنة ويذهب إلى المدرسة في النهار. ونجح في امتحان البكالوريا لكنه لم يعثر على وظيفة فعمل سائق تاكسي بين زحلة وبيروت. يروي ميشال عاصي كل هذه الحكايات المريرة بلهجة ساخرة وسرد مليء بالدعابات والمرح. وتكاد تنسى أنك تقرأ «سيرة ذاتية» مليئة بالضنى والكد والسهر والفقر، وتحسب أنك تقرأ «جعبة» سعيد فريحة. فهو مثله يخلط الشخصي بالعام والسياسي بالمضحك والمؤلم بالمفرح. وأحيانا يخيل إليك أنه كان على رئيس الجامعة اللبنانية الراحل أن يضع عنوانا لكتابه «مذكرات سائق تاكسي»، أو «مذكرات سائق شاحنة».