الأدب موهبة.. والمجاملة فن

TT

أظن أن الأدب موهبة، والمجاملة فن.

ويبدو اليوم أنني سوف أكون كحكيم من حكماء السلاطين، وكيف لا أبدو كذلك، وقد أهنت بالأمس إهانة لا يمكن أن أنساها، صحيح أن تلك الإهانة لم تحدث لي ضررا جسديا أو ماديا، وقد تبدو في نظر البعض تافهة جدا ولا تتطلب كل تلك الحساسية الزائدة من قبلي، ومن الممكن أن أقتنع بهذا الكلام المنطقي لولا أن معنوياتي وصلت ساعتها إلى الحضيض.

والحكاية وما فيها يا سادتي أنني دعيت مع من دعي لحضور اجتماع في مكة ليس فيه لا أكل ولا شرب، وإنما هو اجتماع تداول مواضيع، فأصر أحدهم أن أركب معه في سيارته وأترك سيارتي، قبلت عرضه سريعا لأنه سوف يريحني من السواقة ويوفر لي كذلك ثمن البنزين، وتفاجأت أن صديقا له لا أعرفه ركب السيارة بجانبه، بينما قبعت أنا في المقعد الخلفي، والذي نرفزني وأثار حفيظتي أن الاثنين كانا طوال الطريق يتكلمان مع بعضهما بصوت خافت أشبه ما يكون بالهمس والوشوشة بطريقة أشعرتني أنهما لا يريدانني أن أسمع ما يقولانه، حاولت بشتى الوسائل أن أصغي لمواضيعهما دون جدوى.

والذي زاد الطين بلة، أن ذلك الشخص الذي يركب بجانب السائق يلتفت إلى الخلف ناحيتي بين الحين والآخر ويضحك، فتيقنت أنهما أتيا بسيرتي، فبدأ الدم يغلي في عروقي، وكادت تأخذني العزة بالإثم، وأتورط بالطلب منهما بإيقاف السيارة والنزول منها انتصارا لكرامتي، غير أنني - ولله الحمد - تداركت الموقف في آخر لحظة ولم أنجر وراء حماقتي، لأنني لو نزلت سوف أظل واقفا على قارعة الطريق تتخاطفني السيارات المسرعة وليس هناك من تاكسي ولا حتى عفريت لأركبه ويأخذني على ظهره!

استسلمت متذكرا تلك المقولة: إن أحلك ساعة لا يزيد عدد دقائقها على الستين.

ولما وصلنا مشارف مكة التفت إليّ السائق الجهبذ يسألني وكأنه يمازحني: ما لك صامت ساكت كأنك أبكم؟! تكلم يا أخي (أبو الهول نطق).

لم أرد عليه، غير أن زميله الذي بجانبه أراد أن يخفف دمه فجاوبه قائلا: اتركه فيبدو أن أخانا في الله (حبّيب) - أي عاشق - وطب وما أحد سمّى عليه.

أخيرا وصلنا ولم أنبس طوال هذه المسافة التي تزيد على 70 كيلومترا من جدة إلى مكة ببنت شفة مثلما يقولون، وحمدت ربي عندما نزلت من السيارة، ودخلنا معا إلى الاجتماع، وكنت طوال الوقت (آكل في نفسي) ولم أشارك في النقاشات، بل إنني لم أفهم ما دار فيها، وفي الاستراحة لتناول القهوة والشاي، انتحيت بصديق أعرفه وحكيت له ما حصل أثناء قدومي، ويبدو أنني حكيت في الموضوع الغلط للإنسان الغلط في الوقت الغلط، لأنه اتضح لي أن ذلك الصديق متشائم أكثر من اللازم وبدلا من أن يخفف ويرفه عني إذا به يقول لي: من المؤكد أن هذين الشخصين كانا يتحدثان عنك بسوء، ولكن ولا يهمك، وعليك أن تعلم: إن من بين عشرين شخصا يتحدثون عنا، هناك تسعة عشر منهم يتحدثون بالسوء، وواحد فقط يقول خيرا فينا، ولكنه مع ذلك كله يقوله بطريقة سيئة.

[email protected]