يا ليت قومي يتعلمون..!

TT

حين اغتالت إسرائيل محمود المبحوح في دبي تبيّن أن أجهزة المخابرات التابعة لنحو خمس عشرة دولة غربية قد تعاونت معها لتزويد فرق الموت التابعة للموساد بجوازات سفر للقتلة وبمنافذ عبور في مطاراتها، ومع ذلك، وبعد الاغتيال ركز الإعلام الغربي على أن الجوازات مزورة كي يغطي على جريمة الاغتيال نفسها وعلى تحالفهم المخابراتي في ارتكاب الجريمة. فالجريمة ارتكبت ضد العرب ولذلك لن يحاسب مرتكبوها، وهي، في كل الأحوال، ليست الجريمة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يتعاون حلفاء إسرائيل الغربيون معها، بل إن مثل هذا التعاون قد شجع إسرائيل عبر أكثر من ستين عاما على الاستمرار في ارتكاب جرائم الاغتيال والمجازر ضد المدنيين العزل في فلسطين ولبنان.

اليوم اخترعوا قصة صواريخ سكود كي يزعزعوا استقرار المنطقة، ويغطوا على تعنت نتنياهو ورفضه القاطع للسلام مع العرب، وحين أصبح واضحا لكلّ ذي بصيرة أن هذه القصة مثيرة للسخرية لعدم واقعيتها على المستويين الفني والميداني، اجتمع باراك مع حلفائه في واشنطن لتنفيذ خطة سياسية إعلامية مفادها أن «هناك سلاحا تزود به حزب الله، هذا السلاح يزعزع استقرار المنطقة». وهكذا وفجأة اكتشفت كلينتون وفيلتمان أن كلّ أسلحة الدمار الشامل التي تملكها إسرائيل وتفوّقها الجوي لا تهدد «الأمن والاستقرار في منطقتنا»، بل هذه الأسلحة المزعومة.

وينبري كبار المسؤولين في الولايات المتحدة وأوروبا لإطلاق «تهديدات ضد سورية ولبنان» بناء على تهم أُطلقت في الإعلام ولا تكتسب أي نوع من المصداقية. وفي هذه الحال فقط تبدو اللغة الواضحة طيّعة للمسؤولين الأميركيين بحيث تدين وزيرة الخارجية الأميركية «نقل الأسلحة بأقوى لغة ممكنة»، وتعتبر هذا التصرف المتخيل، طبعا، «استفزازيا ومهددا لاستقرار المنطقة والذي لن تقبله الولايات المتحدة ولا الأسرة الدولية»، كما تعتبره خرقا للقرار 1701 الذي يمنع «الاستيراد غير الرسمي لأي نوع من الأسلحة إلى لبنان». أما كل خروقات إسرائيل لاتفاقيات جنيف الرابعة، وانتهاك إسرائيل لكل قرارات مجلس الأمن بما في ذلك القراران 242 و338 وكذلك 1701 وكل الأسلحة التي تستوردها إسرائيل، فهذا ما لم تلحظه السيدة كلينتون، بل إنها لم تلحظ تزويد حكوماتها المتعاقبة لإسرائيل بالمفاعلات النووية سرا وبالقنابل الفوسفورية والعنقودية لقتل أطفال غزة والمدنيين العزّل وإصابتهم بإعاقات مشينة يمكن للسيدة كلينتون مشاهدتها لو أرادت زيارة غزة. وهي التي تزودها بالطائرات الحربية التي دمّرت آلاف المنازل والمدارس والمستشفيات في غزة وجنوب لبنان. وتناسى وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس جيوشه التي ارتكبت جريمة قتل مليون مدني عراقي، والتي ما تزال مستمرة في قتل العشرات من المدنيين الأفغان يوميا، فسارع إلى ترديد معزوفة أن «تسليح إيران وسورية لحزب الله بصواريخ وقذائف متطورة يقوّض استقرار المنطقة». أما إيهود باراك فقد اعتبر أن هذا الأمر «يخلّ بتوازن التسليح في المنطقة»!! ولكن أي مسخرة أكثر من ترديد إيهود باراك مثل هذه المزاعم وكأنه لا يعرف أن جيشه يمتلك كلّ أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرّمة بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل النووية والكيميائية والبيولوجية وكل أنواع الطائرات والمدفعية والصواريخ والقذائف المحرمة وهي ترتكب كل أنواع جرائم الحرب والقتل والمجازر يوميا ومنذ أكثر من ستين عاما دون رادع، ودون خوف، ودون عقاب، فحلفاء إسرائيل الغربيون في حالة استنفار دائمة لتغطية جرائمها ضد الإنسانية وهم معها دوما وفي كل الحالات «ظالمة أو مظلومة»، وهي دوما ظالمة.

ولكن ماذا تعلّم العرب من أعدائهم طوال هذه العقود الدموية المريرة؟ هل تعلموا أن يكونوا في مواجهة الأعداء، مثلهم، كالجسد الواحد، أم أن بعضهم ما يزال يجرب أساليب أثبتت فشلها مرة بعد أخرى لأنها كمن يضع رأسه تحت الرمال؟ هل تعلّمنا أمام جرائم إسرائيل الوحشية أن نقف مع أشقائنا سواء كانوا موحدي الصفوف أم مختلفين؟ هل تعلّمنا أمام الحصار الذي تفرضه قوى الوحشية الغربية على شعب شقيق مقهور وأعزل أن نتّحد بموقف واحد أم ما زلنا ندير لهذا الشعب المظلوم ظهر المجنّ ونتكاسل وكأن الأمر لا يعنينا؟!

هذا الحصار الجائر والمنافي لكلّ القوانين والشرعة الدولية وحقوق الإنسان مستمر اليوم في البحر والبر والجو على مليون ونصف المليون إنسان فلسطيني لأنهم عرب، وتسكت دول أوروبا والإدارة الأميركية عن جريمة الحصار فقط، لأنهم عرب، فهؤلاء لم يتخلصوا بعد من عقلية الحروب الصليبية، وعنصريتهم تمنعهم من قبول الآخر، ولكن تخيّلوا لو كان الحصار يفرضه العرب على الإسرائيليين، كيف كان موقف كلينتون وفيلتمان «الصامت عن حصار غزة لحد الموت حتى الآن»؟!

يا ليت قومي يتعلمون من منظمي «أسطول الحرية» الذي سيبحر لفك الحصار الإسرائيلي المفروض على المدنيين في غزة من تركيا في 24 مايو (أيار) ويشارك في هذا الأسطول «مؤسسة الإغاثة التركية» (اش اش أي)، والمنظمة العالمية «بيردان» للسلام من ماليزيا، و«الحملة الأوروبية لرفع الحصار عن غزة»، والمبادرات السويدية واليونانية التي سوف ترسل ثلاث سفن محملة ببضائع ومستلزمات طبية وتعليمية وعلى الأقل خمسة قوارب ركاب تحمل على متنها ما يزيد عن 600 شخص. وقد بدأ الإعلام الغربي منذ الآن في دعم الحصار الإسرائيلي الوحشي عبر إطلاق صفّارات الخوف على «أمن البحرية الإسرائيلية» من «مواد غذائية وطبية وقوارب تحمل مناصرين حقيقيين لحقوق وكرامة الإنسان». ولكن أين هو الزخم العربي في هذه الحملة؟ وأين رجال الأعمال العرب من دعم إخوانهم وأخواتهم في غزة الذين يعانون من حصار وحشي قاتل تفرضه قوى الحرب والعدوان منذ سنوات على مدنيين عزل؟

يا ليت قومي، وخاصة قادتهم، وجيوشهم، وأجهزة مخابراتهم، وإعلامهم يتعلمون من أعدائهم وحدة الصف والتضامن وقت الضيق مع الشقيق ظالما كان أم مظلوما.

تثبت هذه الأحداث، وغيرها الكثير، أن الغرب لا يعتبر أي بلد عربي صديقا له مهما قدمت حكومته من خدمات لصالح إسرائيل ومهما قدمت مخابراته وقضاؤه من خدمات لدعم الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية فهم يعتبرونها، وهم محقون، بأن من يكون ضدّ قومه غير جدير بالثقة. لذلك فإن هؤلاء الذين يتخيلون أنهم أصدقاء للغرب هم واهمون، فالغرب صديق لنفسه ولمصالحه. فلماذا لا يكون العرب أصدقاء أنفسهم ومصالحهم أولا؟، ولا شكّ أن مصلحة العرب تقتضي أن يتصرف العرب كطرف واحد وأن يوحدوا الكلمة والصف لأنهم جميعا في نظر الغرب عرب. ولكن بالتأكيد، يمكن لنا أن نتعلم من الغرب بأن ننتصر لإخواننا خاصة وهم الذين يجاهدون من أجل الحرية والكرامة.

إن تغيير مفهوم عدم الاكتراث بالشقيق إلى مفهوم نصرة الأخ والشقيق الطالب للعدالة والحقوق المشروعة هو المفهوم الذي على العرب أن يتعلموه اليوم وهو المفهوم الضروري، ليس فقط لتحرير شعب فلسطين من الوحشية الإسرائيلية، وإنما لبقاء وعزة العرب جميعا في جميع أقطارهم. أما الاعتذار من العدو ومحاولة استرضائه والرهان على «إنسانيته» و«ديمقراطيته» فلن تزيد الركب العربي إلا تقهقرا وضعفا، والتاريخ ماثل أمام أعيننا ومستمرّ بتقديم البراهين لنا يوما بعد يوم، فهل يتعلم هؤلاء الرهط من قومي الذين استطابوا مهادنة الأعداء المعتدين المتوحشين، واستسهلوا معاقبة الشقيق المحاصر المظلوم المعتدى عليه، من الأعداء أنفسهم وهم على العدوان متحالفون متضامنون ضد شعبهم وأشقائهم في فلسطين ولبنان وسورية.

يا ليت قومي يتعلمون وحدة الصف ولو من أعدائهم... يا ليت!