بالغضب مسور بلدي!

TT

رجل مصري مقبوض عليه ومتهم بعملية قتل وحشية راح ضحيتها عجوزان، رجل وزوجته، وطفلان في عمر الورود، كان في قبضة الشرطة وأخذته إلى موقع الجريمة ليمثلها أمامهم، وهناك كان المشهد المريع لآلاف من سكان القرية وهم يستشيطون غضبا وشرر الثأر يقفز من أعينهم، وهم لم يدفنوا ضحاياهم بعد، فما كان منهم إلا أن انقضوا على الرجل وسحلوه وانهالوا عليه ضربا وهو ينزف حتى مات وعلقوه مشنوقا والدماء تقطر منه، في وسط البلدة عاريا تماما في منظر يرتبط بوحوش الغاب وما شابه ذلك!

لبنان بلد غريب بقدر جمال الطبيعة الخلاب الذي منحه إياه الخالق وسحر مناظرها وجوه الخلاب، إلا أن «شرش» الجنون الموجود فيه، والأشبه بالقنبلة الموقوتة يحير المرء المتابع للشأن اللبناني ويذهله دائما.

اللبناني «مشحون» بالغضب الذي يتفجر دائما في سبابه ولعانه على أقل وأتفه المواقف، ولكنه يتطور ليصبح تمردا على الدولة والسلطة والمؤسسات؛ فلا هيبة ولا وقار ولا تقدير ولا احترام لشيء، فمقولة إن المجرم الذي نفذ العملية الوحشية «لا يمثل إلا نفسه ولا علاقة له بشعب أو مذهب أو دين»، قيلت في وصف مرتكب الجريمة، ولكن هل يمكن أن يقال ذات الشيء في الآلاف الذين تجمعوا وشاركوا بالهتاف والتشجيع والصياح والتصوير بالكاميرات والهواتف وحتى بالضرب والرفس والبصق ورمي القاذورات على الجثة الهامدة المعلقة؟ هل يمكن القول بأن الشرطة التي سربت خبر وصول المتهم القاتل لمكان الجريمة بصحبتها لأهالي القرية و«حرصها» الشديد على تمثيله للجريمة في سويعات قليلة بعد وقوعها في وسط تجمهر البلدة الغاضبة مسألة طبيعية أم أن وراءها دوافع انتقامية مزعجة؟ الأمن اللبناني لم يعرف عنه الفعالية والتأثير في اكتشاف الجرائم والقبض على المجرمين، فعشرات القتلى وآلاف الجرائم راحت دون عقوبة ولا حتى معرفة المتهمين فيها.

الجريمة التي حصلت في لبنان بحق المجرم المتهم تكشف عن واقع أكبر وأهم من الجريمة نفسها وهو حجم ازدراء اللبنانيين للمؤسسات في بلادهم، فانعدام احترامهم للمؤسسات السياسية والأمنية وحجم الشكوك الكبير منها والتوجس خيفة وريبة منها وقناعاتهم التامة بأنها مسيسة وموجهة يجعلهم دوما ما يحلون المواضيع «بأيديهم» وخارج المنظومة الرسمية، فأوجدوا ما يسمى بالدولة الموازية وهي في أشكال أحزاب وطوائف وميليشيات وتنظيمات وقيادات وزعامات لها موقع ومكانة أهم من الدولة ورموزها، ويترجم ذلك فعليا بعدد الإعلام والصور لهيئات وأشخاص لا علاقة لهم بالدولة «الرسمية» اللبنانية.

الخلل الموجود اليوم في لبنان يتخطى مشهدا مقززا همجيا متوحشا لأرتال من الناس يتشفون في جثة هامدة، ولكنه يتمثل في هوة هائلة موجودة بين فكرة الانتماء للمواطن اللبناني مع نظرية الدولة اللبنانية تتجاوز الطائفة والحزب والعائلة والزعيم، فكل المؤسسات اللبنانية اخترقتها الطوائف وباتت ازدواجية الولاء فيها لسان الحال وأمرا طبيعيا.

حملة التصريحات وتواترها من شتى المسؤولين اللبنانيين «لاحتواء» كرة الثلج المضرة بحق بلادهم لن تكفي، واليوم مشاهد التناقض اللبنانية تنافس نفسها، فما بين مشهد صخرة الروشة الساحر وجبال الأرز الخلابة هناك مشاهد العشوائيات والمخيمات، وما بين الأسواق التجارية الفخمة والمطاعم الباهرة هناك مشهد الجثة المعلقة وآلاف الناس يتشفون ويتلذذون فيها! الناس ستحسن الظن في التصريحات الرسمية اللبنانية بحق «القبض على الجناة ومحاسبتهم»، ولكن هناك شكا كبيرا جدا في إمكانية حدوث ذلك.

غضب كبير لا يزال مكتوما في صدور اللبنانيين، أسبابه سياسية واجتماعية وثقافية يتفجر في مناسبات مختلفة، والمشهد الأخير كان إحدى تلك المناسبات الحزينة.

[email protected]