شرقا وغربا.. كما تنتخبون يُولّى عليكم

TT

«أبلغ أنواع البلاغة.. إنجاز العمل المتوجب إنجازه»

(ديفيد لويد جورج)

أمس توجّه أهلي إلى مركز الاقتراع في بلدتي لانتخاب مجلس بلدي (محلي) جديد في الجولة الأولى التي تقتصر على محافظة جبل لبنان من الانتخابات البلدية، المنظمة على بضع جولات في لبنان. أما في بريطانيا، فسأتوجه - بإذن الله - مع زوجتي يوم الخميس المقبل إلى مركز اقتراع محلي قرب بيتنا للتصويت في الانتخابات العامة.

من حيث المبدأ، لا فوارق بين انتخابات وأخرى. فالمطلوب من أي انتخاب هو اختيار الشخص - أو التجمّع - الذي يتوسّم فيه الناخب خيرا لجهة تحقيق آماله وطموحاته في مجتمع حرّ يتيح له حق الاختيار والمفاضلة.... ولكن، كما يقال، يبقى «الشيطان (أو الاختلاف) في التفاصيل».

ففي لبنان، الذي أعترف بأنه - على الرغم من كل علاته - أرقى حالا في ما يتعلق بحق التعبير من معظم الدول المحيطة به والقريبة منه، لا توجد برامج حقيقية تخاض بها الانتخابات، أي انتخابات كانت. ذلك أنه بصفة عامة، لا وجود لأحزاب حقيقية بالمفهوم العلمي للأحزاب. بل هي غالبا عبارة عن تجمّعات لها راياتها وألوانها وشعاراتها، وأحيانا لها أيضا ميليشياتها ومؤسساتها الإعلامية ومافياتها المالية، تقوم على تأييد شبه غريزي لزعامة تقليدية أو قيادة طائفية أو مشروع هيمنة مذهبي معلن أو مستتر.

مع هذا، الجميل في لبنان أن حرية الرأي - الزائدة عن الحد، عموما - مصونة وممارسة على نطاق واسع. و«العشائرية» السياسية «مقوننة» ومحترمة في الشارع اللبناني من منطلق أن لا أحد أفضل من أحد و«كلنا في الهمّ شرق». وأجمل ما في الأمر انكشاف أكذوبة النزاعات المبدئية بمجرّد نزولها إلى المستوى المحلي الضيق الذي هو الانتخابات البلدية. وفي الأدب الشعبي اللبناني القديم ثمة ما يوصف بـ«سياسة المختار والناطور»، ومضمونها انقسام حتى العائلة الواحدة داخل القرية الواحدة على مستوى «الأجباب» (جمع «الجب»، أي الحمولة) عندما يحين وقت التنافس على منصب «المختار» (العمدة)، قبل إنشاء البلديات، وتنصيب «الناطور» المولج بمراقبة حقول القرية وبساتينها وكف أيدي السارقين عنها.

كل ما يقرأ في الصحف ويعلن في التلفزيونات عن مواقف وتحالفات «وطنية» و«استراتيجية» يتبخّر تماما في ساعة الحقيقة عندما تصطدم هذه المواقف والتحالفات المزعومة بالولاء للعائلة.. ومن ثم الحمولة.

في بريطانيا الوضع طبعا مختلف. فالمواطن عمليا لا يقترع لسياسي ما لأنه فلان ابن فلان، بل لأنه يمثل الحزب الفلاني الذي يعرض هذا البرنامج الاقتصادي ويقدّم تلك التعهدات في مجال الأمن، ويقترح ما يعتبره أولويات في قطاع التعليم والضمان الصحي واستراتيجية ضبط الهجرة... إلخ.

كثيرون من الناخبين البريطانيين غير الملتزمين لا يكلّفون أنفسهم أحيانا عناء معرفة اسم النائب الذي يمثل دائرتهم في مجلس العموم، لكن قلة قليلة منهم تجهل لأي حزب ينتمي. وهذا جانب رائع من الديمقراطية «الاستحقاقية» التي تنزع شوائب عديدة عن مبدأ المحاسبة المطلوبة للطبقة السياسية، وتحمّل الأحزاب تبعات برامجها وتعهداتها، ومن ثم ممارساتها إن هي وصلت إلى السلطة.

أقول هذا، مع أنني تابعت كغيري المناظرات التلفزيونية بين قادة الأحزاب البريطانية الرئيسية الثلاثة، التي أعتقد بأنها غدت تسخيفا لمبدأ المحاسبة الآنف الذكر، وإضعافا لجوهر الالتزام بالبرامج والمنجزات لصالح الترويج الإعلامي الرخيص المقتبس عن التجربة الأميركية.. التي هي أول تجربة جعلت من التلفزيون الناخب الأخطر في الانتخابات.

وخلال الأسبوع الماضي أيضا، ضجّت الصحافة البريطانية بواقعة رئيس الحكومة غوردن براون مع امرأة متقاعدة في مدينة روتشديل الصغيرة المتاخمة لمانشستر. وكيف سايرها بكلام لطيف بينما كانت تشكو من التأثير السلبي للمهاجرين، ثم انتقدها بكلمة «متعصبة» بعدما ابتعد عنها من دون أن يتنبه إلى أن الميكروفون كان شغالا.

ملاطفة أهل السياسة الناخبين الغاضبين أو المناوئين عندما كانوا يقابلونهم في الشارع أثناء الجولات الدعائية الانتخابية في الماضي كانت أمرا أكثر من طبيعي، ومع هذا لم يتهم أحد ساسة كبارا من مستوى وينستون تشرشل وديفيد لويد جورج، وقبلهما وليم غلادستون، بـ«النفاق». ولعل من أشهر ما يذكر عن تشرشل في بدايات حياته السياسية أنه خلال جولة انتخابية، عام 1900، واجهه مواطن مناوئ له صائحا: «أصوّت لك؟ لماذا؟... أفضل أن أصوّت للشيطان». فردّ تشرشل مبتسما وبكل هدوء «ولكن في حال أحجم مرشحك المفضل عن الترشح، يسرنّي أن أعتمد على تأييدك!».

حتى في أميركا، التي تعيش منذ بضع سنوات ظاهرة «فوكس نيوز» الفظيعة، كان هناك ساسة ينجحون بفضل مبادئهم وشجاعتهم ومناقبيتهم من دون وجود دور ذي شأن لـ«الكاريزما» التسويقية. ويجوز القول إنه لو كان في الماضي ما نراه اليوم من طغيان للتلفزيون، ومن ثم «التسويق» الإعلامي والتضليل الممنهج، لما عرفت أميركا عددا من أعظم رؤسائها.

طبعا، قد يقول قائل، إن سنّة التطور التكنولوجي حملت في المقابل إيجابيات عديدة. فـ«ثورة الإعلام» أسهمت أيضا في كشف أسرار كانت تخفى على ناخبي القرن التاسع عشر في أميركا وبريطانيا وغيرهما في الغرب، سواء على صعيد الحياة الشخصية لسياسي ما أو ارتباطاته السياسية والمالية غير المستحبة... وهذا صحيح.

غير أن مبالغة بعض الإعلام - وكله يملكه القطاع الخاص - سواء في مجال «التسويق» و«التلميع» أو لجهة تهميش الفوارق في البرامج، والتغاضي عن حقائق موجودة ومعروفة، وصولا إلى الانتقائية في تصيّد الهفوات والأخطاء، وتضخيم ما يناسب منها على حساب الحقيقة، هي بلا شك، مبالغة تفقد الديمقراطية الغربية جزءا كبيرا من صدقيتها. وتطرح عليها غلالة مما يمكن اعتباره نوعا من العشائرية... هي «العشائرية المصلحية المالية» هذه المرة.

المهم، سواء كنا في الشرق العربي أو في الغرب... فإن ما نختاره يعبّر عنا ويمنحنا ما نستحقه في مطلق الأحوال.

ففي الشرق العربي أنتجت الأصوات الطائفية والعشائرية في انتخاباتنا برلمانات طائفية وعشائرية قاصرة. وفي الغرب، أدى تأثر الناخب الغربي بـ«الكاريزما» الشخصية وانجراره وراء الوعود المعسولة بـ«تقليص دور الدولة» وإغراءات خفض الضرائب... إلى الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، التي تهدّد اليوم بإفلاس عدد من الدول، بعد إفلاس بعض كبريات الشركات والبنوك في العالم.