الواد يشقى والناس تسعد

TT

عندما أعود إلى قراءة ظريف الظرفاء وساخر الساخرين المعروف بـ«العبد لله»، بـ«الولد الشقي» وبـ«الرجل الشقي»، وغالبا بالاسم الذي عرف به في الجيزة، في مدرسة الشيخ عبد العال، وفي مدرسة محمد علي الابتدائية، وفي «ساحة ماثيوسان»، وفي «فريق الأسهم النارية» وفي «فريق البحر الأعظم» وفي صحف مصر، أي محمود السعدني، عندما أعود إلى قراءته، أفكر دوما في محمد شكري.

تقريبا، المستوى نفسه من الشقاء والفقر والعذاب.. المرحلة السياسية نفسها.. المرحلة الاجتماعية نفسها. كانت الجيزة مثل تطوان، وكان فيها عسكر إنجليز كما كان في تطوان عسكر إسبان. الفارق الوحيد، ربما، هو أن والد «الولد الشقي» كان شقيا لا ظالما، وأمه، مثل أم الولد الشاطر محمد شكري، امرأة حنونة وطيبة ومليئة حزنا مثل نهر عند النبع.

يتطلع محمد شكري إلى هذا الأسى الذي حوله، فيقسو ويمتلئ مرارة ويفيض حدة ويلعن كل شيء ولا يحب أحدا ولا يرتضي قيمة أو احتراما لأحد.. يحمل منشارا ويكتب به.. بالأسنان التالفة أو القاطعة، منشار في الذهاب ومنشار في الإياب، ويملأ الدنيا اعتراضا على طالعه وواقعه، ويغرق الكلمات من المستنقعات إذا اقتضى الأمر، ويصر على نقل الحقيقة كأنه يتحدث إلى طبيب لا إلى قارئ مؤلف، هو أيضا، من مجموعة مرارات ومن بضعة تقاليد ومن ثمة ضوابط وعادات. مستنقعات الفقر التي كتب منها «العبد لله»، لا يلتقط منها كلمة واحدة.. يروي أعمق الأحزان بأعمق الضحكات.. يحكي أسوأ الوقعات بأظرف اللمحات.. يكتب ويمشي.. يروي ولا يتوقف. إذا شئت أن تحزن معه، هذا أمرك. هو يريدك أن تضحك عندما يخبرك كيف المدرسون يكسرون عظامه، وعندما يخبرك كيف أصيب بالبلهارسيا في القرية التي أحب: «فلما وقع بصري على الحقول والترع والقمر في الليل تمنيت ألا أغادرها».. ويريدك أن تفقع من الضحك عندما طارده العم شحاتة لأنه لم يكن معه قرش ثمن الكشري الذي اشتراه منه.. يريدك أن تضحك عندما استضافته جدته التي أحبها أكثر من أي إنسان آخر «عندما شكوت لها عدم استطاعتي النوم في الظلام أشعلت لي لمبة كاز (ساروخ) ظلت تنفث دخانا وهبابا حتى الصباح. ورغم ذلك لم أنم، فقد خشيت أن تنقلب اللمبة على جنبها فتحرق الدار وتحرقني». طبعا، الأدب الساخر ليس الأدب الدرامي. أدب الحزن ليس أدب السخرية. الدعابة المصرية ليست الدرامية المغربية. أي لا مجال للمقارنة. ولكن أيضا كتب السعدني سيرته الذاتية من دون كلمة نابية واحدة، ومن دون صورة حادة على الإطلاق.