تفسّخ النسيج الأوروبي

TT

عندما أرسى القادة الأوروبيون أسس الاتحاد الأوروبي بتوقيعهم معاهدة روما عام 1957، تحدثوا بتفاؤل عن «اتحاد تربطه عرى تزداد وثاقة» ومجموعة من الموارد و«عمل متناغم» لجمع الدول المتنوعة معا.

إلا أن المشكلة أن الأوروبيين لم يبدوا استعدادهم قط حتى يومنا هذا لتقبل عواقب هذا التأكيد على الوحدة. لقد رغبوا في إقرار عملة موحدة، لكن رفضوا إقرار سياسة مالية مشتركة للإبقاء على السجلات المالية متوازنة، ورغبوا في تحديد علم مشترك، لكنهم رفضوا الاتفاق على دستور مشترك، ورغبوا في التمتع بفوائد الوحدة من دون تحمل قيودها أو مسؤولياتها.

هذا النسيج من التكامل الأوروبي، الذي جرت حياكته على يد جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، شرع في التفسخ على مدار العقد الماضي. وفي الأسبوع الماضي، كان بمقدور الجميع سماع أصوات تفسخ خيوطه مع خوض ألمانيا والدول الأخرى القوية ماليا نضالا لتقرير كيفية إنقاذ اليونان، أضعف الدول الأعضاء في الاتحاد وأكثرها تبذيرا.

وتتجلى خطورة الأزمة الأوروبية في حقيقة أنه لا تتوافر حلول جيدة للفوضى اليونانية، ذلك أن من شأن الحلول قصيرة الأمد التي ينادي بها البعض إثارة تكاليف ضخمة على المدى البعيد. الأسوأ من ذلك أن المؤسسات اللازمة لخلق إطار عمل لضمان الاستقرار على المدى الطويل لا وجود لها، ومن غير المحتمل أن تقام الآن في خضم الأزمة.

ما يبدو منطقيا، من الناحية النظرية، ترك اليونان تعلن عجزها عن سداد ديونها، وفصلها عن الاتحاد المالي الأوروبي لفترة كافية للسماح لها بإعادة هيكلة اقتصادها، ثم إعادتها إلى الاتحاد بناء على أسس أكثر صدقا وذات طابع مستدام أكبر. ومثلما حذر مدير أحد صناديق التحوط، فإن «المستثمرين نظروا دوما إلى اليورو باعتباره ماركا ألمانيا فعليا، لكنه بدأ في التحول الآن إلى دراخما يونانية». من الواضح أن اليورو الأوروبي الموحد في حجمه لا يناسب جميع الدول الأعضاء.

كان من المحتمل أن يوافق وزراء المالية الأوروبيون على حزمة إنقاذ في عطلة نهاية الأسبوع، لكن الأرقام المعلنة مخيفة حقا، حيث من المتوقع أن يصل مبلغ الإنقاذ المالي الموجه إلى اليونان إلى قرابة 159 مليار دولار. طبقا للمحلل المالي ديفيد سميك، فإنه حال عرض إعانات مالية مشابهة على إسبانيا والبرتغال وأيرلندا، فإن التكلفة قد تصل إلى 660 مليار دولار إضافية، مما يعني أن مجمل التكلفة ربما يربو على تريليون دولار حال إقرار حالة اليونان كسابقة يبنى عليها. وتتمثل المشكلة الجوهرية في أن القواعد والمؤسسات القادرة على الإبقاء على النظام على الصعيد المالي لم تأت على مستوى الرؤية التي كانت مطروحة بخصوص أوروبا. بدلا من ذلك، يجد الأوروبيون أنفسهم محصورين داخل هياكلهم الوهمية. تعج مدينة بروكسل بمكاتب للاتحاد الأوروبي تعكف على إصدار توجيهات، ومع ذلك لا تتوافر وزارة مالية مشتركة. في الوقت ذاته، نجد أن «المصرف الأوروبي المركزي» في فرانكفورت يفتقر إلى أي سلطة حقيقية عندما تضرب أزمة دول الاتحاد، حيث لا يمكنه إصدار ديون نيابة عن الدول الأعضاء أو تنفيذ عمليات نقدية إبداعية على غرار ما قام به مصرف الاحتياطي الفيدرالي خلال الأزمة المالية عام 2008.

على مدار سنوات، راودت المحللين المخاوف من أن ينهار المشروع الأوروبي تحت وطأة التوترات بين الشرق والغرب، وتمثل التهديد الأول في الاتحاد السوفياتي وحلفائه في أوروبا الشرقية، ثم جاء النضال من أجل استيعاب دول الكتلة الشرقية داخل الاتحاد الأوروبي. لكن بمرور السنوات اتضح أن الخط الفاصل الحقيقي يقع بين الشمال والجنوب، ذلك أن دول الشمال الأوروبي المنضبطة ماليا، مثل ألمانيا، تمقت التوجهات المالية المتسيبة التي تنتهجها نظيراتها الجنوبية التي تعاملت مع اليورو كبطاقة اعتماد ليس من الضروري أبدا سداد الديون المرتبطة بها لإعادة التوازن إلى حسابها.

الملاحظ أن حلم الاتحاد الأوروبي في تشكيل اتحاد «يزداد اتساعا وعمقا يوما بعد آخر» تحول إلى نمط من «التأديب السياسي» في السنوات الأخيرة، مع مهاجمة العناصر المتشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي، باعتبارها عناصر وطنية رجعية، أو ربما أسوأ من ذلك. ومع ذلك، كانت مؤشرات السخط العام قائمة بالفعل، وتجلت داخل فرنسا، الدولة التي تزعمت حلم «أوروبا واحدة». على سبيل المثال، تمكنت فرنسا بالكاد عام 1992 من التصديق على معاهدة ماستريخت بنسبة أصوات هزيلة لم تتجاوز 51 في المائة، وهي المعاهدة التي أقرت عملة مشتركة بين دول الاتحاد. وفي عام 2005، رفض الناخبون الفرنسيون الدستور الأوروبي رغم كونه من صنع يدي رئيسهم السابق غاليري جيسكارد دستان.

لقد كان الاتحاد الأوروبي الإنجاز الأكبر لجيل ما بعد عام 1945، حيث نجح في تحقيق المصالحة بين الأعداء القدامى وتفكيك الحدود التجارية والمساعدة في تفكيك الشيوعية وخلق مستوى من الرخاء لم يكن يخطر ببال أحد. لكنه أخفق في تحقيق أمر واحد وعد به ضمنيا، وهو بناء اتحاد حقيقي، والآن يدفع ثمن ذلك الفشل.

* خدمة «واشنطن بوست»