نقد العقل العربي في سياق النهضة: نشأة وسيرورة ومآلا

TT

ينتمي محمد عابد الجابري إلى طائفة نادرة من المثقفين العرب ذوي المشاريع الثقافية الأكثر جدية واجتذابا ولفتا للانتباه في آن معا، لدرجة يستحيل معها الإلمام بتفاصيل مشروعه من جهة، وما أثير حوله من نقاشات وجدالات في الكثير من الأوساط الفكرية العربية على تنوع مشاربها وتعدد توجهاتها من جهة أخرى. ومن ثم، يمكن القول إن قوة القراءة الجابرية للتراث لا تنحصر في انتهاجها المدخل الإبستمولوجي بديلا عن المداخل المنهجية الأخرى - سياسية كانت أم اقتصادية - فحسب، بل فيما أثاره من قضايا وردود فعل شديدة حركت الراكد من مياه الثقافة العربية الآسنة.

ولعل أول ما يلفت الانتباه في مسيرة الجابري العلمية أنه قدم إلى الفلسفة من عالم الرياضيات الذي أولع به مطلع شبابه. ويفصل الجابري بعضا من ولعه هذا في كتابه «مسار كاتب»، حين يحكي عن سفره إلى سورية سنة 1957 ليتم دراسته في تخصص الرياضيات، وقت أن كان عمره آنذاك واحدا وعشرين عاما. لكنه قبل أن يسجل نفسه في كلية العلوم، راودته رغبة ملحة في أن يتصفح الكتب المدرسية السورية حتى يقارنها بنظيرتها المغربية. وهنا فوجئ بأن الأرقام مكتوبة باللغة الهندية، وهو قد تعود في بلده على الأرقام العربية - الإنجليزية حاليا - فإذا بالأرقام غريبة عنه، وإذا هو غريب عنها!

نتيجة لذلك، قرر الجابري ترك الرياضيات والتخصصات العلمية نهائيا، والبحث عن حقل معرفي آخر فاختار القانون. إلا أنه عدل عن التسجيل به مرة أخرى لما لاحظه من أن الدراسة القانونية تعتمد على الحفظ والذاكرة بالدرجة الأولى. ومن ثمة بادر بتسجيل نفسه في تخصص «الثقافة العامة» في كلية الآداب، لينتسب إلى شعبة الفلسفة بعد ذلك في السنة الثانية.

على أن اختياره هذا لم يكن محض مصادفة تاريخية، وإنما مهد له استعداده الفطري وقدرته على طرح التساؤل من جهة، وتعلقه بابن خلدون من جهة أخرى. ففي مرحلة البكالوريا - الثانوية العامة - وتحديدا في سنة 1957، استمع الجابري إلى محاضرة عن ابن خلدون وآرائه في الإذاعة المغربية. ولما لفتت المحاضرة انتباهه، أسرع إلى استعارة «المقدمة»، التي استهوته جدا، وكأنه وجد فيها ملاذه الأخير!

ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن يُلح الجابري على أستاذه في مرحلة دبلوم الدراسات العليا، الدكتور محمد عزيز الحبابي، أن يكون موضوع بحثه «آراء ابن خلدون في كتابة التاريخ»، ومدى استفادة الكتابات التاريخية المغربية المعاصرة منها. وعلى الرغم من أنه سجل موضوعه وانتهى منه بالفعل، فإنه أحس بحاجته إلى شيء من التوسع، فعاد في عام 1968 لينظر فيه مجددا، بغية أن ينشره على هيئة كتاب مطبوع. وبالفعل، ما إن انتهى منه حتى سارع بتقديمه إلى أستاذه الدكتور نجيب بلدي، من أجل أن يكتب مقدمة له، فإذا بأستاذه يطلب منه أن يسجله كأطروحة دكتوراه!

ولعل إعادته النظر أكثر من مرة في أطروحته تلك قد مكنته من تقديم معالجة فكرية متماسكة، مما دفع البعض، كمحمد جابر الأنصاري، إلى القول: «على الرغم من الذيوع الذي حققه كتاب (نقد العقل العربي) بين جمهور القراء وعامة المثقفين، فإن أهم إسهامات الجابري البحثية تتمثل في كتابه (العصبية والدولة في فكر ابن خلدون)، الذي مثل إعادة نظر مهمة في سسيولوجيا التاريخ والحاضر في واقع العرب من المنطلق الخلدوني، بنظرة معاصرة لم تفتقر في جوهرها إلى الابتكار والتجديد».

والواقع أن «نقد العقل العربي» مثلما جلب للجابري شهرة ربما لا تدانيها شهرة أي عمل عربي معاصر، إلا أنه في الوقت نفسه جلب عليه سخط أطراف شتى اجتمعت - وقلما تجتمع على شيء - من أجل نقض مقولاته تارة والتشنيع بكاتبه تارة أخرى! فمِن قائل بأن الكتاب أشبه ما يكون ببناء معماري فسيح، له واجهة «مقدمة» زخرفية جذابة، وأروقة تبهر القادمين إليه، لكنه من الداخل لا يضم إلا القليل من الغرف الصالحة للسكن «الفصول»! ومن قائل بأن صنيعه في مجال الفكر يشبه صنيع أدونيس - مع المفتونين به من غير المتخصصين - في النقد الأدبي والإبداع الفني والكتابي! ومن متهم إياه بأنه يجيد فن «المراوغة» في التنصل من أحكام الإسلام، أو نقدها، كما لا يجيد «المواجهة»، على نحو ما يفعل صاحبه «أركون»!.. إلخ.

وفي المقابل من ذلك، ثمة من مضى في طريق تقديس الكتاب وصاحبه إلى آخره! فمِن قائل بأنه حاول من خلال مشروعه أن ينتصر ويؤسس لحركة عقلانية تتأطر في المعقول العقلي والمعقول الديني! ومن ذاهب إلى أن مشروعه ليس مجرد تأريخ لتكوين العقل العربي، بل هو مشروع لإنهاض هذا العقل، إذ هو لا يمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي!

وبطبيعة الحال لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما اختلف المتخصصون أيضا حول جوهر المشروع برمته. فمن قائل بأن سؤال النهضة كان بمثابة الهاجس الكبير الغالب على أطروحات الجابري، ومن ذاهب إلى أن السؤال الأهم في تفكيره هو ذلك الذي يتمحور حول مفهوم السلطة في المجتمعات العربية - الإسلامية: مَن يحدد التاريخ الإسلامي؟ ومَن يملك شرعية استنباط حقوق المرأة مثلا من النصوص الدينية؟ وما التجديدات التقنية والاجتماعية التي يمكن السماح بها، وكيف يمكن شرعنتها؟.. إلخ.

وفي المحصلة، يبدو أن الذي كرمته «اليونسكو» ضمن احتفالاتها باليوم العالمي للفلسفة في 16 نوفمبر(تشرين الثاني) 2006، في سياق احتفالها بالذكرى المئوية لميلاد الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت (1906 - 1975)، والحاصل على جائزة ابن رشد للفكر الحر 2008، سيظل مثار جدال ونقاش لا ينتهي على الرغم من وفاته، وربما ينال مشروعه حظه من النسيان شأن مشاريع أخرى أكثر جدية واجتهادا، ولكن أيضا ربما يقوم بتكريمه أولئك الذين هاجموه بشدة أثناء حياته!!

* كاتب مصري