أبعد من قضية البرقع

TT

في فرنسا – وإلى حد ما أوروبا - ضجة متمادية حول «النقاب الإسلامي»، كان آخر أصدائها قضية التاجر الفرنسي الجنسية والجزائري الأصول، الذي اكتسب الجنسية الفرنسية بزواجه من امرأة فرنسية. ثم تزوج بثلاث نساء أخريات (يقول إنهن عشيقاته..لا زوجاته؟!) ورزق اثنا عشر ولدا منهن، وراح يقبض عنهم مبلغا شهريا محترما كتعويضات عائلية من الضمان الاجتماعي. التاجر «المحترم» ينتمي إلى جماعة التبليغ السلفية، فلا يرتدي الملابس الفرنجية بل القميص الأبيض والطاقية والكوفية ويطلق لحيته وترتدي زوجته «النقاب» على الطريقة الأفغانية – الطالبانية. ولم يكن هذا الرجل السلفي الإسلاموي التبليغي ليحتل بصورته وتصريحاته صدارة الأخبار في فرنسا لو لم ينظم شرطي محضر ضبط بحق زوجته، التي كانت تقود سيارتها وهي منتقبة، بحجة «أن النقاب الكامل يحول دون حسن قيادة السيارة». وأيضا، لو لم تكتشف الدوائر الرسمية مخالفته للقانون الفرنسي، الذي يمنع تعدد الزوجات، ولم تثر بحقه مسألة نزع الجنسية الفرنسية عنه.

ولقد ترافقت هذه «الحادثة» مع تقدم الحكومة الفرنسية بمشروع قانون يمنع ارتداء «البرقع الأفغاني» في الأماكن العامة، معللة ذلك بأن هذا الرداء الحاجب للوجه قد يخفي وراءه إرهابيا أو إرهابية. وأن «حجب المرأة بهذا الشكل الكامل يحط من مكانتها في المجتمع». وتدرس بلجيكا ودول أوروبية أخرى إمكانية وضع تشريعات مماثلة.

كل ذلك من شأنه تعميق وتوسيع الهوة بين الجاليات الإسلامية المقيمة بفرنسا والغرب عموما، وبين المجتمعات الغربية، التي لم يتوقف توسعها منذ 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وصعود المد الإسلاموي وتمادي حربي العراق وأفغانستان، ناهيك بالنزاع العربي - الإسرائيلي وموقف الغرب المنحاز لإسرائيل فيه.

بديهي أنه ليس من مصلحة الدول الغربية ولا من مصلحة العرب والمسلمين، أن تزداد هذه الهوة عمقا واتساعا. وأن التقريب بين شقيها - ولا نقول طمرها - لن يتم إلا بجهود مشتركة يقوم بها الطرفان. وهذا يعني أن على الحكومات والمجتمعات الغربية أن تنزع من نفوس المسلمين المقيمين بأراضيها مشاعر التهميش والانتباذ، وأن تحترم تقاليدهم وخصوصياتهم (التي لا تتعارض مع قوانينها ومقومات مجتمعاتها). وأن على المسلمين في الغرب، بدورهم، أن يحترموا قوانين البلاد التي يقيمون بها ومشاعر أبنائها. بالإضافة إلى واجب الحكومات العربية والإسلامية في مساعدة الطرفين على هذا التقارب أو الانسجام، وعدم «استخدام» الجاليات الإسلامية في الغرب، لأغراض سياسية أو للقيام بعمليات إرهابية.

بطبيعة الحال، هناك أطراف لها مصلحة في زرع التوتر بين الحكومات والمجتمعات الغربية، والمسلمين المقيمين بالغرب. إسرائيل، أولا وأخيرا، ولا داعي لشرح الأسباب والأهداف. والجماعات الإسلاموية السياسية «الجهادية» المعلنة الحرب على الغرب (بحجة الرد على عدوانه المتمادي على الإسلام والمسلمين). ثمة جماعات ثالثة غربية وإسلامية محافظة أو شوفينية، لا تسعى للصدام، ولكنها تعتقد أن التعايش بين «الثقافة الغربية العلمانية والثقافة الإسلامية الدينية صعب، وأن على كل فريق أن يتشدد في الدفاع عن مصالحه وحقوقه، ولكن دون الوصول إلى الصدام».

القضية في الواقع لها أكثر من وجه وبعد. فهي قضية عقائدية – حضارية - ثقافية، في بعدها الإسلامي المسيحي واليهودي. وهي قضية سياسية – قومية - وطنية، في بعدها التاريخي (منذ الفتح الإسلامي حتى قيام إسرائيل مرورا بالصليبيين وبالاستعمار الغربي). وهي قضية اجتماعية - اقتصادية في التفاوت بين مستوى حياة المواطنين الغربيين وأبناء الجاليات الإسلامية في الغرب. وليست محصورة بالحرب على الإرهاب أو بتعارض بعض مظاهر حياة المسلمين العائشين في الغرب وتقاليدهم وتراثهم مع التقاليد والأعراف الغربية.

لقد باتت الحكومات الغربية مدركة لكل هذه الأبعاد وعاملة على وضع صمامات أمان تحول دون تطور العلاقات الإسلامية - الغربية وانجرافها إلى حد التصادم والانفجار. ولقد كان لوصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض وانفتاحه على العالم الإسلامي، من أهم مظاهر وعوامل التغيير في العلاقات الغربية - الإسلامية. حتى ولو لم يتحقق الكثير من التقدم على هذا الصعيد، لا سيما في القضية، العقدة المحورية، وهي النزاع العربي – الإسرائيلي.

إلا أن تصفية ملفات النزاع بين الشرق العربي - المسلم، والغرب الأوروبي - الأميركي – المسيحي، يتطلب سنوات طويلة وتحولات عديدة في العلاقات بين الدول تفرضها تحديات مشتركة بين الجميع، كإنقاذ البيئة والطبيعة ومحاربة الفقر والمرض، وهي تحديات يتضاءل إزاءها النزاع على.. البرقع؟!