يقول معارفه: إنه كان عبقريا!

TT

قذف في وجهي سؤاله مصحوبا ببعض لعابه:

- هل نحن كعرب نسير إلى الأمام أم إلى الخلف؟

ثم وقف مقطب الحاجبين ينتظر إجابتي، فاقترحت أن يسأل جندي المرور المنتصب أمامنا في أحد الميادين، فهو أدرى باتجاهات السير، وميول السائرين. ولم تعجبه إجابتي، فتطوع كعادة من يسأل سؤالا يختزن له إجابة وقال:

أرى أننا نسير إلى الخلف، وإليك الدليل؛ في الأدب كان لدينا العقاد، وطه حسين، وإيليا أبو ماضي، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ، فمن لدينا اليوم؟ في الغناء كان لدينا أم كلثوم، وفيروز، ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وطلال مداح، فمن يطربنا اليوم؟

ومضى يكمل مقارناته في حقول السياسة والكرة والمسرح، فأكملت من ضيقي به قائلا:

- وفي الماضي كان لدينا أيضا أناس يجلسون في المقاهي فلا يقتحمون خصوصية الذي يجلس بجوارهم.

وكان نادل المقهى يهز كفه من خلف الرجل بحركة لها معناها في لغة الإشارة، الأمر الذي جعلني أمضغ كلماتي، وأنا أنقد النادل ثمن فنجان القهوة وأمضي، وكنت أشاهد الرجل من خلف زجاج المقهى يحاول أن يتبعني بخطى متعثرة لأنه كان يسير إلى الخلف ملتزما بما يعتقد أنه مسار أمته.

في كل مرة أزور فيها تلك العاصمة العربية أجد خطواتي تقودني إلى ذلك المقهى، فألمح الرجل في مكانه يدلق سؤاله على مسامع الزبائن، فقلت وقد نمت بيننا الألفة:

- أغلب الظن يا صديقي أننا لا نسير إلى الأمام، ولا نتراجع إلى الخلف، ولكننا نقف في مكاننا، والدليل أنك هنا منذ أكثر من تسع سنوات تطرح نفس السؤال.

وكانت المرة الوحيدة التي شاهدت فيها الرجل يخرج عن طبعه، ويفرج عن شبه ابتسامة ومضت بسرعة البرق بين شفتيه قبل أن يقطب حاجبيه من جديد.

يقول معارف الرجل إنه كان عبقريا، ونابها، وحكيما، يأتي كل يوم إلى المقهى متأبطا صحيفته في وقار، يقرأها من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، ثم ينقد النادل ثمن مشروبه ويمضي، وفجأة بينما كان يقرأ صحيفته كالمعتاد وقعت عينه على خبر في الصحيفة فانتابته نوبة من الهياج، مزق خلالها الجريدة، وقذف بصفحاتها في كل الاتجاهات، ومن يومها لم يعد يسير إلا إلى الخلف، وهو يلقم كل من يقترب منه السؤال:

- هل نحن كعرب نسير إلى الأمام أم إلى الخلف؟

زبائن المقهى يختلفون في أحكامهم حول الرجل، وأنا أختلف مع نفسي حوله، فبعضي يعارض بعضي، ولست أدري إن كنت قد سحبتكم معي إلى بساط الحيرة أيضا.

[email protected]