ابن الجابري

TT

كتب محمد عابد الجابري في «مقدمة» ابن خلدون أن الجميع يستطيعون العثور في «المقدمة» على ما يسخطهم ويرضيهم، حتى الشيطان. «وأيضا المؤمن والملحد، والكاهن والمشعوذ، والفيلسوف والمؤرخ، ورجل الاقتصاد وعالم الاجتماع وكارل ماركس نفسه. كل أولئك يستطيعون أن يجدوا في «المقدمة» ما يبررون به أي نوع من التأويل يقترحونه لأفكار ابن خلدون».

أتأمل مؤلفات الجابري المتحاذية على الرف، وأسأل: هل كان في وعي أو لا وعي، يريد أن يدلنا على نفسه؟ أليس هو الذي كتب عن كل شيء في مقدمات كثيرة، بدل أن يضعها في مقدمة واحدة، كما كان الأمر شائعا زمن ابن خلدون؟ ما هي المسألة الفكرية أو الاجتماعية أو التربوية التي لم يمخر الجابري عبابها؟ وكم فيه من منهجية ابن خلدون وفضوله ثم الكد في سبيل الفضول والمعرفة؟ وأي عام هو العام الذي مر ولم يصدر فيه مؤلف لابن الجابري؟

قبل سنوات سألت محمد الشارخ عن حال الجابري الصحية، فقال: «يمرض ويكتب. يتألم ويفكر. ولن يستودع قلمه قبل أن يستودع دنياه الرمق الأخير». وبقينا نقرأ صفوات وصحوات الجابري في الصحف، هنا وهناك. ونتبعه اتباع المحبين والمقدرين. وعلى الرغم من كل ما كتب وما نثر وما نشر، ظِلت ضنينا على اقتفاء عقله وجدياته وطريقته في البحث الدائم عن الجديد في القديم وفي العريق.

وكان الجابري راقيا ورائقا في التأويل، على الرغم من المعارك التي انجرف إليها وانجرفت به. وبعد كل إعصار كان يعود إلى هدوئه وعمله، بأسرع مما تعود الأعاصير إلى السكينة. وسألني زميل عزيز لمن أقرأ من المفكرين الشباب، فقلت للجابري، لأنه يكتب وكأنه لا يزال في الفصل الأول من الكتاب الأول. ومعظم كتبه كانت بلا خواتيم وكأنها معبر إلى الكتاب التالي. كاتب المقدمات والتتمات. وأعطى الجابري الكثير من نفسه من أجل أن يحررنا من الرواسب، وهو يعيد صياغة التاريخ العربي، ومفترقاته العظيمة، ويروي سيرة أعلامه الحضارية. ومثل جميع العلماء الكبار وذوي النفوس الكبرى، فعل كل ذلك بتواضع وفقر. وتحدث دائما عن أعمال سواه، إلا عن مذكرات بسيطة أعطى فيها لنفسه حق الذكر لا حق الكبر. وقد فقدنا فيه متبصرا وكبيرا.