الشراكة في العملية السياسية.. مطلقة أم مشروطة؟!

TT

منذ أن انطلقت العملية السياسية بعد التغيير بات معلوما للجميع أن قادة كتلة العراقية ورموزها ونخبها السياسية والاجتماعية التي تشكل قاعدة وطنية صلبة وعريضة وراسخة قد تعهدوا منذ عام 2003 بالمشاركة النزيهة والفاعلة في العملية السياسية الجارية، وتحمل مسؤولية هذه المشاركة في سبيل المحافظة على الاندماج الوطني وتحقيق مساهمة فاعلة من كل العراقيين في بناء الدولة وبلورة النموذج الديمقراطي الذي يليق بالشعب العراقي وتاريخه وحضارته.

ومن الثابت أن للعملية السياسية شروطها وأعرافها، وللممارسة الديمقراطية قواعد وآليات معروفة، منها ما هو تاريخي كرسته تجارب الأمم والشعوب، ومنها ما هو مستحدث تبنته التجربة العراقية ودونته في الدستور والوثائق القانونية والأدبيات السياسية وصار الالتزام بها جزءا من المسؤوليات السياسية والأخلاقية والوطنية التي يتحملها كل شريك في هذه العملية، لأن في ذلك مصلحة الشركاء جميعا ومصلحة العراقيين كافة.

واليوم، تتعرض العملية السياسية لتداعيات مقلقة تهدد الاستقرار وتقوض مفهوم الشراكة، على خلفية القرار الذي أصدرته الهيئة القضائية للانتخابات بشأن إلغاء نتائج 52 مرشحا شاركوا في الانتخابات تحت ذريعة شمولهم بإجراءات هيئة المساءلة والعدالة. ولم تكتف الهيئة القضائية باستبعاد المرشحين، بل قضى قرارها بإلغاء جميع الأصوات التي حصلوا عليها، وعدم احتسابها لقوائمهم. إن شطب أصوات الناخبين هو عقوبة جماعية غير مبررة، فضلا عن عدم وجود أي مسوغ قانوني سليم له. إن هذا القرار هو مخالفة صريحة للدستور الذي نص في المادة 20 على أن «للمواطنين رجالا ونساء، حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح»، فالتصويت حق للناخب، والصوت ملك للناخب قبل المرشح. وإذا كان استبعاد المرشح عقوبة، فالعقوبات في الدستور العراقي شخصية، ولا يمكن أن تتعدى إلى أشخاص آخرين، إذ نصت المادة (19)/ ثامنا «العقوبة شخصية».

ومن نافلة القول الإشارة إلى عدم وجود نص دستوري أو قانوني يجرم التصويت للمرشح الذي تنطبق عليه شروط الاستبعاد ليجيز بعدها إلغاء أصوات ناخبيه عقوبة لهم، فالمادة (19)/ ثانيا تنص على أنه «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة أشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة».

كما يشكل قرار إلغاء الأصوات خرقا واضحا لأحكام قانون الانتخابات رقم 16 لسنة 2005 وتعديلاته، فليس في شروط الناخب التي نص عليها القانون في الفصل الثاني منه والموسوم «حق الانتخاب» أي إشارة إلى المعايير الواجب توافرها في المرشح الذي يعطيه الناخب صوته، فشروط الناخب تتعلق بالجنسية والأهلية والعمر والتسجيل فقط. كما يتناقض القرار مع بنود أنظمة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي تنص على أن الأصوات التي أدلى بها الناخبون لمرشح مستبعد يجب أن تحتسب للقائمة التي ينتمي إليها، وهو ما ينسجم مع منطق القائمة المفتوحة التي تتيح للناخب التصويت للقائمة وللمرشح معا، فيكون الصوت للقائمة عند استبعاد المرشح.

وبهذا يتضح أن نتيجة هذه القرارات لا يمكن أن تكون سوى حرف الديمقراطية عن مسارها والإضرار بالعملية السياسية السلمية، لتصبح هذه العملية عنوانا بلا مضمون، وخيارا لا يغري العراقيين بالمشاركة المدنية بحثا عن الخلاص والتغيير والرخاء والازدهار. وعلى هذا الأساس تتأكد ضرورة دراسة (العراقية) للخيارات السياسية الهادفة إلى إيقاف التدهور ووضع حد للانحدار فيما لو تسنى لقرارات غير قانونية، كما أنها تفتقر للشرعية أن تمضي وتنفذ لتكون مآلاتها تحريف نتائج الانتخابات.

ومع هذا، فنحن باقون ضمن محيط العملية السياسية التي آلينا على أنفسنا المشاركة الفاعلة فيها كخيار سلمي ديمقراطي للبناء والتغيير، والتي تعيش اليوم انحرافا ملحوظا عن قيمها وأصولها التي تأسست عليها نتيجة الضغط بإخراجها عن مسارها الطبيعي إلى محيط بيئة جديدة غريبة، سمتها الفوضى وانهيار نموذج التعددية والقبول بالآخر، وتعرض القضاء لشبهات التسييس، ومن الواضح أن هذه ليست مواصفات العملية السياسية التي تحملنا مسؤولية الشراكة في تأسيسها ورعايتها منذ عام 2003، وبالتالي سنكون بالتأكيد غرباء عليها كما سيكون حال شركائنا الوطنيين.

أما مسألة الانسحاب من العملية السياسية، فليست «العراقية» اليوم من يدفع باتجاه التفكير في مراجعة جدوى العمل السياسي، وإنما الذي يفرغ البدائل السياسية من محتواها هو تلك العقلية التي لا تحسن إدارة الخلاف بالآليات الديمقراطية، ولم تستوعب ما أفرزته نتائج الانتخابات، وتعمل من أجل إبعاد «العراقية» عن تأدية ما يضعه استحقاقها الانتخابي والدستوري من مسؤوليات على عاتقها. وعليه فإن «العراقية» ستستمر في ممارسة مسؤوليتها الوطنية والأخلاقية ككتلة فائزة في الانتخابات العامة من خلال مواصلة طرح مجموعة خيارات هدفها إصلاح الخلل وتصحيح الخطأ والعودة بالمشهد السياسي إلى جادة الصواب والمنطق والعدالة.

وفيما يتعلق بالكلام عن «تدويل الأزمة العراقية» فهو مجرد ترويج سياسي وإعلامي. فقد حاولنا وما زلنا نحاول حل المشكلات العالقة في إطار الخارطة السياسية العراقية بهدف تنقية الأجواء وتهيئة الظروف اللازمة لتسريع وتسهيل تشكيل الحكومة، وعلى هذا الأساس بادر قياديون في «العراقية» الاتصال بمختلف الكتل السياسية، ولم نستثن ائتلاف دولة القانون، ومع ذلك جاءت المكافأة مفاجئة باستبعاد مرشحينا ومعاقبة ناخبينا بشطب أصواتهم!

إن خيار طلب المساعدة العربية والدولية يبقى قائما ومشروعا، وسنذهب إليه متحصنين بالشرعية الوطنية إذا ما تواصلت مساعي تغيير نتائج الانتخابات بصورة غير مشروعة كما هو حاصل اليوم. ولكن هذا الخيار سيبقى خيار المضطر ليس إلا، وهو ليس بالضرورة الخيار الأفضل، فالحل الوطني سيبقى مقدما على الخيار الدولي.

أما القول بأن الدعوة لدور أممي في حل المشكلة يعد تدويلا لشؤون البلاد السيادية، وبالتالي انتقاصا من سيادة العراق فهو تصور غير دقيق يعوزه الفهم القانوني وبعد النظر السياسي، فهناك على سبيل المثال قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السادس (1770 و1830 و1883) التي تمنح المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة وبعثة مساعدة العراق (UNAMI) تفويضا لإسداء الدعم والمساعدة فيما يخص تطوير العملية السياسية وإجراء الانتخابات ومراجعة وتطبيق الدستور. والحكومة المنتهية ولايتها وافقت على هذا التفويض ورحبت به، ودعت إليه وتبنته بصورة رسمية في عدة رسائل ومواقف مختلفة.

إن «العراقية» كتلة وجمهورا بما تمثله من تيار وطني واسع ومشروع عراقي خالص عابر للطوائف والمكونات، يشهد على ذلك حضور ناخبيها المشهود في كل المحافظات العراقية، تشكل المعادل الوطني لكل مشاريع المحاصصة والاستئثار، لذلك فإن استبعاد مرشحيها وشطب أصوات ناخبيها لا يمكن تفسيره إلا بالتضييق عليها ومحاصرتها من أجل اضطرار هذه الكتلة الفائزة إلى خيارات اليائسين وحرف بوصلتها عن استراتيجية التنافس السياسي الشريف والنزيه، لتوضع بعد ذلك في خانة «أعداء» العملية السياسية، ومن ثم تتحول إلى هدف سهل وتقليدي للعنف السياسي بما يؤدي إلى تصفية المشروع الوطني العراقي وإنهاء وجوده. والأمر الذي ينبغي تأكيده في هذا المجال هو التزام «العراقية» بالخيار العقلاني المسؤول في إدارة التنافس والمفاوضات والتحالفات، وحصانتها ضد كل ما من شأنه التأثير في مسار بوصلتها الوطنية الرشيدة الحريصة على السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي.

إن حال المشروع الوطني العراقي اليوم، بكل تجلياته السياسية، وجمهوره بكل خلفياتهم وانتماءاتهم الاجتماعية، كحال إنسان يعيش حياته الطبيعية حتى يأتي من يتعمد خنقه وقطع أنفاسه. في هذه الحالة لمن نوجه السؤال؟! أنوجهه للإنسان المحروم من التنفس فنقول له: هل تنوي الموت أو تختاره؟! وهل بقي له من خيار؟! أم نوجه السؤال لمن يسعى لموته بحرمانه من ذرة الهواء!. إن السؤال واللوم اليوم ينبغي أن يوجه للظالم عن ظلمه، لا كما درج مراقبون ومحللون على توجيه الأسئلة والاتهامات للمظلوم المسلوب الإرادة.

لقد كنا دائما شركاء فاعلين نزيهين في العملية السياسية التي تستدعي حمايتها وترصينها التزام الشركاء كافة باحترام قواعد اللعبة وأصول الشراكة وآليات التنافس، والانسجام مع ما أجمع عليه العراقيون من مبادئ القبول بالآخر والتعاون البناء والتعامل الدستوري والشفاف مستظلين بظلال المشروع الوطني والتوافق السياسي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا استمرت مشاهد نسف مفهوم الشراكة وتقويض العملية السياسية فكيف يمكن لكتلة العراقية وهي صاحبة مشروع التغيير والإصلاح أن تستمر في استقلال قطار أخرجت عجلاته عن مسارها عن عمد وإصرار؟!

إن حالنا سيكون كمن ينتظر الهلاك لوطنه وشعبه وهو يراه قادما بأم عينه، ليقبل بمشهد مختل يدفع العراقيون ثمنه من حياتهم ومستقبلهم، ويكون وجوده بلا قيمة سوى إضفاء الشرعية على حراك سياسي مقيد وخاضع لتقلبات المناكفة السياسية، إذ تتقلص في ظل ممارساتها مساحة الديمقراطية بمرور الزمن، فيخسر العراق حريته لصالح نمط جديد من الانسداد السياسي، وليس من أجل هكذا نموذج قدم شعبنا الغالي تضحياته الجمة.

وعلى الرغم من كل ما ذكرناه، فإن كتلة العراقية ما زالت ترفع غصن الزيتون، وتقدم مصلحة العراق على ما سواها، وتمد يد الشراكة الوطنية لجميع الكتل السياسية الفائزة في الانتخابات، لا سيما تلك الكتل التي تتقارب رؤاها وبرامجها السياسية مع مشروع كتلتنا، وإن كنا نختلف معهم في الجانب التنفيذي، وتقف بيننا وبينهم قضايا خلافية تتعلق بالنهج الحكومي، وطريقة إدارة البلاد، وكيفية الاستجابة لتحدي بناء الدولة، وهي وإن كانت مسائل حساسة ومهمة فقد كان بالإمكان التفاهم بشأنها والاتفاق على وضع مقاربات حلول وتوافقات حولها وهو الأمر الذي أعاقه دخول المشهد السياسي متاهة إعادة العد والفرز اليدوي واستبعاد المرشحين وشطب أصوات الناخبين.

إلا أننا ما زلنا نأمل في إذابة الجليد وتجسير الهوة إذا سعت جميع الأطراف بصدق وجدية من أجل ترطيب الأجواء وبناء الثقة، وتوافرت النوايا المخلصة والإرادة العازمة، لتذليل العقبات ورأب الصدع، وفتح قنوات الحوار والتواصل إنهاء لمعاناة شعبنا التي طالت. وهذا لن يتحقق إلا حين نضع مصلحة العراق أولا، وقبل كل شيء.

* نائب رئيس جمهورية العراق