أين أنت يا عنتر؟

TT

حان الوقت لإطلاق نداء استغاثة مدوية. فعما قريب سيبحث العرب عن بطل، ولو تاريخي، خارج من بين ظهرانيهم ولا يجدونه، بعد أن اكتفوا ببطولات غيرهم وتبنوها بحماسة. ففي مصر ثمة تحذير جدي من أن حُفّاظ «السيرة الهلالية» ينقرضون بوتيرة سريعة، ولن تبقى لهم باقية. وفي بيروت، «مطبعة العرب»، قد تجوب المكتبات كلها دون أن تعثر على «سيرة عنترة» لو كنت من الراغبين في قراءتها، وعلى الأرجح لن توفق في شرائها حتى من معرض الكتاب، لأنها باتت خزينا في المستودعات المنسية. والوضع أسوأ حين يتعلق الأمر بسيرة «الظاهر بيبرس» أو «الأميرة ذات الهمة» أو قصة «الأمير حمزة البهلوان». وقصص هؤلاء الأبطال الشعبيين وسيرهم الجميلة التي شكلت الوجدان العربي وتشكلت مادتها من تاريخ وطموحات أهل المنطقة، باتت ليس فقط موضع نسيان، بل احتقار وابتذال، بدل أن تقرأ وتروى وتستلهم، في أفلامنا ورسومنا المتحركة ورواياتنا وحتى برامجنا التلفزيونية.

وكان لا بد من شرح وتفسير مطولين لطلابي في قسم «اللغة العربية وآدابها»، كي يقتنعوا بأن مادة «السير الشعبية» في الجامعة تستحق عنايتهم. ولم تكن السخرية خافية عن وجوههم وهم يسمعون أن عنترة جزء من مقررهم، وحكايته مع حبيبته عبلة موضوع لاختبارهم. وانبرى أحد الطلاب يسأل: «وماذا نستفيد من دراسة هذه التخاريف»؟

ومع أن الخرافات الشعبية أصبحت اليوم من الكنوز التي تدرس وتبحث، فإن سؤال الطالب يبقى مشروعا، ما دام بعض الباحثين والأكاديميين العرب ما زالوا يستبسلون في الاستهزاء بلغة هذه السير، ويستخفون بقيمة قصصها التي تبدو لهم دون مستواهم الثقافي الرفيع.

فمن المعيب حقا، أن نتغني بإلياذة هوميروس اليونانية كملحمة بطولية شعرية، ونسفّه «إلياذتنا» ذات المستوى العالمي باعتراف المستشرقين أنفسهم، الذين رأوا منذ القرن التاسع عشر في قصصنا الشعبية، عبقرية فذة، لا نزال نشكك حتى في انتمائها إلى ما يسمى الأدب، وهذه بحد ذاتها مأساة.

وبما أن الطبيعة تكره الفراغ، فقد امتلأت الساحة العربية بأبطال آتين من وراء المحيطات محملين بثقافتهم، وقيمهم، ورغباتهم وآمالهم، التي قد تختلف جذريا عما نطمح إليه ونتطلع. وتربّت، بسبب الغدر بـ«عنترة» واستصغار «الملك سيف بن ذي يزن»، وتهميش «علي الزيبق»، أجيال عربية متتالية على بطولات «سوبر مان» و«بات مان» و«سبيدر مان». وبقيت «المانات» الغربية، التي تطير مجنحة، وتتسلق الخيوط وتمشي على الحواف الخطرة، متخطية الصعاب، متغلبة على المحن الجهنمية، هي النموذج الأعلى للطفل العربي. ولم تتوقف المخيلة الغربية عن ابتكار أبطالها، كما لم تتب الأمة العربية عن تبخيس فرسانها وشجعانها، وحملة قيمها وآمالها. ولم ينتبه كثيرون ربما إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما منذ أيام، وهو يتحدث أمام نخبة من المسلمين، عن مشكلة انعدام الثقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، نوه بكتب الأطفال التي ألفها الدكتور نايف المطوع من الكويت والتي تحوي رسما للشخصيتين الخياليتين الأميركيتين «سوبرمان» و«باتمان» يمدان أيديهما لنظرائهما في العالم الإسلامي. وعندما يتقصد الرئيس الأميركي الحديث عن هذين البطلين اللذين لا يعود عمرهما إلى ما هو أبعد من ثلاثينات القرن الماضي، فهو يعرف جيدا أنه يتحدث عن أيقونتين أسهمتا في صنع صورة أميركا القوية، المنتصرة، في مخيلة البشرية، رغم أنهما ابتكار تخيلي كامل، ولا تمتان إلى أي أصل في الواقع بصلة. أما أبطالنا الذين وُجدوا بالفعل على وجه البسيطة، ونبضت قلوبهم، وسجلوا منجزاتهم، وحفروا مبادئهم وأفكارهم، وتفاعل الناس مع سيرهم وانكساراتهم وانتصاراتهم، وأضافوا عليها وعدلوا مسارها، ثم رووها وسجلوها، وتناقلوها قرنا بعد قرن، هؤلاء الأبطال لم نلحظ أن أي مسؤول عربي عُني بأمرهم أو أدرك أن في إنصافهم، استعادة للكرامة التي دافعوا عنها والقيم التي حملوها ولا تزال تسري في دمائنا وجيناتنا.

وإذ بات اسم عنتر لا يستخدم إلا للهزء بمن «يتعنتر» دون أن يمتلك المقومات الكافية لذلك، فإن إعادة الاعتبار لأحد أجدادنا الأفذاذ الذين انتصروا للمساواة بين البيض والسود، منذ العصر الجاهلي، أي قبل مارتن لوثر بأكثر من ألف سنة، وتغزلوا بالحبيبة واضعين المرأة في أعلى المراتب دون إحساس بنقص أو خوف على مهابة الفحولة وسمعتها، هو جزء لا يتجزأ من تلميع الصورة العربية التي تسعى إليها الحكومات دون جدوى. ولعل رجلا في التاريخ العربي لم يتواضع، ويتنازل ويتقبل ظلم الحبيبة ودلالها كما فعل هذا الفارس الجاهلي الذي أرعب أعداءه وتحول بفضل شهامته وثورته على الظلم بطلا ملحميا تشتهيه الشعوب وتتمناه جدا لها وابنا من أبنائها.

الموقف العربي المستهتر لا بل والنابذ لهذا التراث المشع يبدو نافرا ومستهجنا في زمن، تعود فيه كل أمة إلى تراثها لتعض عليه بالنواجذ. فرواية «الممالك الثلاث»، تعتبر من أمهات التراث الصيني، رغم أن عمرها لا يتعدى 600 سنة، لكن أي صيني مهما كبر أو صغر، يعرف تفاصيل هذه الرواية وأحداثها وأبطالها، لأنها تطلع له من الأفلام السينمائية، وتطل عليه من خشبة المسرح، ومن الشرائط المصورة، ومن الألعاب الإلكترونية، وحتى الألعاب التقليدية الموجودة في الأسواق.

مسكين جدنا عنترة، ألا يستحق بعد كل ما أنجزه من بطولات وما تركه لنا من أشعار وما حمله من مبادئ ترفع الرأس، أن يكون - على الأقل - بطلا افتراضيا على الشبكة العنكبوتية؟