الوسيط الأميركي

TT

من الطبيعي، بعد 19 سنة من تجارب التفاوض المحبطة مع الإسرائيليين - وفي ساعاتها الأخيرة عادة - ألا يتوقع الفلسطينيون، ولا العرب عامة، «اختراقا» جذريا لجدار التعنت الإسرائيلي، خصوصا إن المفاوضات المقترحة ستجري في عهد حكومة ليكودية وبقيادة مباشرة من بنيامين نتنياهو. (أحدث استطلاع للرأي أظهر أن 57% فقط من الفلسطينيين مقتنعون بجدوى المفاوضات مقابل 70% من الإسرائيليين).

رغم ذلك يعتبر استئناف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية غير المباشرة مناسبة لا تجوز الاستهانة بها في وقت أصبحت فيه الأراضي الفلسطينية فريسة قضم إسرائيلي منهجي والقضية الفلسطينية برمتها أسيرة معطيات إقليمية ودولية تهدد بدفعها إلى المرتبة الثانية، إن لم يكن الأخيرة، من اهتمامات القوى الفاعلة على الساحة الشرق أوسطية.

لو كان الحس القومي سيد الموقف العربي في الوقت الراهن لجاز القول بأن المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية أدق وأهم من أن تُترك للفلسطينيين وحدهم. وعلى الرغم من أن الجانب الفلسطيني استعد لها باستشارة عواصم عربية مؤثرة، فإن مسار المفاوضات، وحده، كفيل بالحكم على ما إذا كان الجانبان، الفلسطيني والعربي، سيتعاملان معها بالأهمية التي تستحقها.

إذا كان ثمة ميزة عملية لهذه المفاوضات «غير المباشرة»، فقد تكون في احتمال أن يلعب راعيها الأميركي دور الوسيط أكثر، من دور ناقل الرسائل والمواقف. من هذه الزاوية، يعتبر إطلاق المفاوضات «غير المباشرة»، بحد ذاته، إنجازا أميركيا لا يجوز التقليل من أهميته في ظل خلفيتيه الإقليميتين: الانقسام الداخلي الحاد، على الجانب الفلسطيني، والائتلاف الحكومي الهش، على الجانب الإسرائيلي - وهما معطيان يجعلان تقديم «التنازلات» الضرورية للتسوية متعذرا على الجانبين معا.

قد تكمن هنا أهمية دور الراعي الأميركي، فالمفاوضات غير المباشرة ستتيح للرئيس أوباما أكثر من فرصة واحدة لأن يحقق، على الصعيد الشخصي، إنجازا تاريخيا عجز كل أسلافه في البيت الأبيض عن تحقيقه – إنجاز حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي - وعلى الصعيد الدبلوماسي تطبيق بعض ما سبق أن أعلنه في خطاب القاهرة الشهير عن استعداده للانفتاح على العالمين الإسلامي والعربي - بحيث يتيح له حل المشكلة الفلسطينية صياغة استراتيجية جديدة لحربه على «الإرهاب الدولي» يستثنى منها «العامل العربي» الحاضر فيها باستمرار.

ولكن شروط نتنياهو المسبقة لاستئناف المفاوضات لا توحي بأنه يشارك فيها بذهنية «تسووية»، ففي تأكيده أنه سيقود المفاوضات بنفسه، وفي اشتراطه إعطاء الأولوية لبحث القضايا الجانبية (الأمن والمياه) على حساب القضايا الصميمية (القدس والحدود واللاجئين) يكشف عن استراتيجية مماطلة، إن لم يكن عن مخطط تهرّب من الاستحقاق السلمي بأكمله.

لم تتضح، بعد، ماهية «التطمينات»، التي قدمتها واشنطن لإقناع نتنياهو بالتجاوب مع دعوتها استئناف مفاوضات التسوية - وهو الذي قبل بحل الدولتين على مضض و«سّرب» موافقته على وقف مؤقت لعمليات البناء «الاستفزازي» في القدس الشرقية متجنبا أي التزام علني به.

ولكن، مهما كانت نوعية هذه «التطمينات» وأبعادها، لن يكون نتنياهو المبادر إلى تقديم «تنازلات» في سبيل التسوية طالما استوجب عذره الظاهري تقديم الحفاظ على ائتلافه الحكومي مع أحزاب اليمين القومي والديني المتطرفة على تطلعه إلى تسوية «تهدد» بالإطاحة بحكومته، الأمر الذي يبرر التساؤل عما إذا كان نتنياهو رهين الأحزاب المتطرفة في هذه الحكومة - كما يحلو له أن يصوّر نفسه - أم أن العكس هو الأصح.

من هنا أهمية أن يقدم الرئيس الأميركي رؤية إدارته للتسوية المنشودة في أول مناسبة تنكشف فيها دبلوماسية المماطلة الإسرائيلية، فتأخذ الإدارة الأميركية المبادرة في إقرار خطة التسوية، وربما فرضها، مدعومة بالقرارات الدولية ومواقف حلفائها الأوروبيين.

وغني عن التذكير، فإن مشروع التسوية الذي عرضه الرئيس الأسبق بيل كلينتون، عام 2000، ما زال يشكل إطارا عاما مقبولا لتسوية منصفة.