السعدني: الساخر والساحر

TT

رحل عن عالمنا مؤخرا الكاتب «الكبير» محمود السعدني، «الولد الشقي» بعدما أمضى أكثر من ثمانين عاما يسخر من كل شيء حتى من نفسه، كما قال ذات مرة.

توقف عن الكتابة والنشاط والحديث منذ بضع سنوات من 2005 تقريبا، وهو الذي كان الضاج الصاخب صاحب الضحكة المجلجلة والصوت الأجش مثل صوت أخيه «العمدة» صلاح السعدني.

الثمانين ثقيلة على صاحب روح خفيفة وعقل ثقيل، وقد قال شاعرنا القديم:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش/ ثمانين حولا لا أبالك يسأم!

فكيف بمن عاش قبل ثورة يوليو صحافيا ومراسلا حربيا، وبعدها مثقفا مؤمنا بمبادئ الضباط الأحرار، ثم ناصريا حتى النخاع، للدرجة التي قال فيها عن نفسه، كما يذكر صديقه نقيب الصحافيين المصريين مكرم محمد أحمد: «إذا كان هيكل سفير عبد الناصر للعالم فأنا سفير عبد الناصر للطبقات الشعبية». وكان يمازح السادات قبيل وبعيد الثورة، ولكن حين أصبح السادات رئيس تحرير جريدة الجمهورية في عهد عبد الناصر، وكان السعدني يعمل عنده، دخل عليه، والسادات مطرق يقرأ أوراقه، والسعدني لا يكف عن الحديث وإطلاق النكات، جريا على سابق عهده مع السادات، فقال له السادات ممتعضا: «أنت عربجي ولا صحافي؟»، فرد عليه الأخير: «كلهم واحد، وكلها مهن»، فغضب السادات من وقاحة الرد، وقال له: «أنت ولد لسانك زفر، أنت موقوف»، فرد السعدني: «ولا يهمك»! فاغتاظ السادات أكثر وقال له: «أنت مرفوت»، فرد عليه أيضا: «ولا يهمك»، وخرج ظانا أنه طرد، لكنه عاد بعد أن قرعه السادات على جرأته.

علاقة هذا الصحافي الشعبي الساخر بالسلطة غريبة، وقد كانت سلاطة لسانه سببا في تعاسته وسببا في مجده أيضا، الذي استمر حتى في جنازته الحاشدة التي ضمت أقطاب السلطة والمعارضة.

هل يستطيع الكاتب الساخر أو الفنان الساخر أن يضمن سلامته من المخاطر في العالم العربي؟

سؤال صعب، نحن نرى البرامج الكوميدية الساخرة من كل الرؤساء في الغرب، ومن كل أقوياء المال وحتى رجال الدين، ولكن من الصعب جدا في العالم العربي والعالم الثالث بشكل عام أن يضمن الساخر سلامته، نقول الساخر ولا نقول القاذف بالشتائم المجانية. ففرق دقيق وخطير بين السخرية التي تعمق الحس الأخلاقي، وبين مجرد الردح والشتم.

لاحظنا بعض المسلسلات الكوميدية الساخرة من بعض السياسات أو الجهات في العالم العربي تتعرض للقمع والترهيب أو للعدوان الدعائي العام، كما حصل في لبنان حينما قدم برنامج كوميدي شخصية حسن نصر الله بقالب ساخر، أسوة بغيره من «كل» ساسة لبنان، فقامت الدنيا ولم تقعد وتم «إخراس» هذا البرنامج. والمشكلة ليست مع السياسيين فقط بل حتى مع كل قوى وفئات المجتمع، كما حصل في مسلسل «طاش» السعودي.

لم نفرق بعد بين الأدب الساخر وبين الشتم والردح الأجوف، رغم أن تراثنا حافل بعظماء الساخرين، ومحمود السعدني كان أحد أذكياء الساخرين، وأعمقهم، امتدادا لساخري مصر الكبار.

فقدان السعدني يعني فقدان غصن من أغصان الضحك الصافي.. الضحك الذي تشعر بعده بأن ثمة معنى جديدا تسلل خفية إلى روحك على أجنحة الضحك البيضاء.

[email protected]