انتظار الفلسطيني للحل العادل

TT

بمناسبة يوم العمال العالمي، منعت السلطة الوطنية الفلسطينية آلافا من عمالها من العمل في المستوطنات اليهودية ضمن مقاطعتها لهذه المستوطنات. تذكرت مسرحيات اللا معقول التي ترجمها المثقفون المصريون في خمسينات القرن الماضي. المتفقهون المستعربون لغويا منهم مَصَّروها كمسرح العبث، الذي اعتبره المتفرنسون الفرانكوفون «فلسفة ما بعد الوجودية». تمصير المسرحيات جاء بتفسير عبثي على خشبة المسرح «وربما اختلف التفسير الدرامي بعد مغادرتي مصر»، بالسخرية من عبثية وفلسفة واجتهاد الشخصيات فيها؛ فالمصري يقابل سوط الجلاد وقيوده بالنكتة الساخرة من «المعلم» الذي يوظف الجلاد؛ أي: الديكتاتور الحاكم؛ والعرب يقولون: شر البلية ما يُضحك.

ومثل القرار الفلسطيني فهناك أيضا أبعاد مأساوية في مسرحيات العبث التي كُتبت خصيصا لهذا النوع من الفلسفة، وعلى سبيل المثال: «في انتظار جودو» لصمويل بيكيت (الأيرلندي الذي كان يكتب بالفرنسية وأحيانا بالإنجليزية)، أو إعادة صياغة ألبرت كامو (الفرنسي الجزائري المولد) لأسطورة سيزيف الإغريقية بفلسفة عبثية الوجود في قالب فرنسي معاصر لمنتصف القرن العشرين. فانتظار الفلسطيني للحل العادل «الذي يَعِد به زعيم كل فصيل» لوضعه العبثي مثل انتظار بطلي المسرحية لجودو الذي لا يأتي أبدا. فمنذ قرار التقسيم «1947» والفلسطيني ابتلي بزعامات حنجورية الشعارات، رافضة لأي حل أمامها - ولو مؤقتا ببراغماتية دافيد بن غوريون بقبول عصفور في اليد خير من مائة تسمع زقزقتها فوق الشجرة، وإن لم ترها العين - أصرت على انتظار جودو ممسكا بخريطة فلسطين الانتداب «التي تنكمش مساحتها كلما تكرر عرض المسرحية على المسرح السياجغرافي».

كما تجد أيضا عبث الدائرة السيزيفية المغلقة «تكرار السير في الطريق نفسه وتوقع الوصول لنهاية مختلفة عن السابقات!». أما تعصير كامو فزاد من عمق مأساة سيزيف بإدراكه، أثناء هرولته نازلا الجبل لالتقاط الصخرة وحملها على كتفيه، بأنها ستتدحرج مرة أخرى من بين يديه للأسفل لحظة وصوله القمة؛ أي: قناعته بقبول قدره الأبدي كعقاب إلهي على تمرده.

ألم نقرأ في بعض الأدبيات: «إن قدر الفلسطيني النضال» فيصبح النضال «الجهاد عند الإسلاموجية» نفسه غاية وأسلوب حياة، وليس وسيلة كما حدث مع المسكين سيزيف؟

ويبدو أن المناضلين صدقوا الشعارات التي ابتكروها «من أجل الأصوات والمقاعد القيادية» بتضحيات هذا الجيل «فالاستشهاد أفضل من ذل الخضوع» (دون أن يطرح الخيار للتصويت) وسيأتي الفرج مع «جودو» لخلاص الأجيال القادمة.

فهل تعتقد الإدارة الفلسطينية أن منع الفلسطينيين من العمل عند الإسرائيليين، هو عقاب للفئة الأخيرة لحساب الأولى؟ وكنت تصورت أن الدروس الباهظة الثمن ستوجه بوصلة الإدارة الفلسطينية لطريق خارج الدائرة السيزيفية العبثية المغلقة.

ويبدو أن السلطة هنا تتوقع من المواطن الفلسطيني «العجب» الذي تتوقعه الهانم من زوج يعمل كحيوانات المزرعة 12 ساعة يوميا، ثم يساعدها في الأعمال المنزلية بعد عودته حاملا باقة الورود وعلبة الشيكولاتة ليطارحها الغرام طائرا معها على بساط الريح يستمعان لأنغام المرحوم فريد الأطرش!.

فلو توفرت فرص عمل قرب الدار أو البلدة، هل كان آلاف الفلسطينيين يقبلون مشقة، بل مذلة، الوقوف في حواجز التفتيش، التي تجعل ساعات السفر ضعفي ساعات العمل اليومي؛ وتحمل نظرات الريبة باعتبارهم «إرهابيين» حتى يثبت العكس «بفضل جهاد أصحاب الأحزمة الناسفة. ومعظمهم، مثل زعمائهم الذين عبثوا بعقولهم، لا يقومون بأي عمل يرضي الله لكسب العيش، ويسافرون في الدرجة الأولى ويلتقون في الفنادق الخمسة والسبعة نجوم)؟

فهل يستطيع مفتش صحة مثلا منع سكان القرية من الشرب من الترعة تجنبا للإسهال، قبل أن يتفق مع البلدية على أن تمد مواسير المياه النقية إلى بيوتهم؟

فناهيك عن إرسال إشارات خاطئة إلى الإسرائيليين يستغلها المتشددون ضد معسكر السلام الإسرائيلي «وهو معسكر لقمّة جبل ثلج عائم من أغلبية صامتة، لا يزال عاجزا عن إقناع الناخبين الإسرائيليين بخيار السلام لأسباب معقدة، بعضها في الجانب الفلسطيني» في التحجج بأن الفلسطينيين يرفضون التطبيع، وهو ليس موضوعنا.

موضوعنا الأساسي هو تذكير السلطة الوطنية الفلسطينية ببديهية - لا أعلم كيف غابت عنهم - وهي توفير فرص العمل أولا، بأجور في مستوى الأجور الإسرائيلية «مع تقدير عنصر رقمي نسبي لحساب فارق تكاليف السفر والمشقة والدعم والخدمات التي تقدمها السلطة» قبل إصدار قرار المنع.

فتقرير في محطة «العربية»، اتهمه وزير فلسطيني «بعدم الدقة»، من الضفة الغربية قام بحساب فرص العمل المتاحة في القطاعين الخاص والحكومي بأقل من خُمس عدد المتعطلين بسبب قرار المنع؛ كما أن متوسط الأجر 80 شيكلا في الوظائف الفلسطينية مقابل 1500 شيكل يتقاضاها الفلسطيني لأدائه عملا مماثلا عند الإسرائيليين.

وهناك درس من تاريخ آخر حكومة وفدية في عصر البرلمان الديمقراطي قبل انقلاب 1952 في مصر؛ رئيس الوزراء عام 1951 كان الزعيم الوطني الكبير مصطفى النحاس باشا، اختلف مع الإنجليز وقرر توجيه ضربة من الطابع الغاندي إليهم في إطار القانون «كان الالتزام بالقانون دين الأمة المصرية وقتها ولم يعرف العمل الوطني العنف والاغتيالات، باستثناء إرهاب جماعة الإخوان الذي كان موجها ضد الفن والنساء ودور الملاهي وليس ضد عساكر الإنجليز». تشاور النحاس باشا لأسابيع طويلة مع وزارات المالية، والأشغال، والري والمواصلات، والمصالح والمواني والمنائر والباشوات الوطنيين من أصحاب المصانع.

فقط عند تأكد النحاس باشا من توفير 80 ألف وظيفة بأجور مناسبة «وفي حالة غير المناسبة، دفعت الدولة الفارق في شكل بطاقات تموين وتذاكر سفر ومصاريف دراسة وإسكان»، ألقى خطابه الشهير في أكتوبر 1951 «من أجل مصر وقعت المعاهدة، ومن أجل مصر أعلقها وأدعو العمال المصريين لسحب سواعدهم من قاعدة القنال».

الزعيم النحاس توجه لوطنية العمال المصريين بدعوتهم، وليس إجبارا بسلطة القانون، لمقاطعة الوظائف في «قاعدة القنال» (كان الإنجليز انسحبوا من بقية القواعد وفق معاهدة 1936 إلى القنال لمدة عشرين عاما وهو ما تم تنفيذه بجلاء آخر جندي في يونيو (حزيران) 1956 قبل اليوم المحدد في المعاهدة بـ 48 ساعة)؛ وأُحرِجت حكومة المحافظين يومها في مجلس العموم ووجِّه إليها اللوم بإغضاب حليف الحرب العالمية مصر. وأملي أن تكون السلطة الفلسطينية – التي تتلقى من دعم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والأكبر من أمريكا، ما يجعل نصيب الفرد في الميزانية أعلى من نظيره المصري والمغربي والتونسي واليمني والسوداني والسوري – قد قرأت واستوعبت بعناية درس النحاس باشا ولم تكتفِ بقراءة مسرحية بيكيت «في انتظار جودو».