العراق: سنوات الجوع

TT

تشير إحصائيات منظمة الغذاء والزراعة الدولية التابعة للأمم المتحدة (فاو) إلى أن عدد الأشخاص الجوعى في العالم بلغ أكثر من مليار إنسان، أي إن شخصا واحدا من كل ستة أشخاص في العالم يعيش تحت خط الفقر، أما المسوحات التي أجراها، أو اشترك بها، الجهاز المركزي للإحصاء في العراق فتشير إلى أن شخصا واحدا من كل أربعة أشخاص في العراق، أي نحو سبعة ملايين مواطن، يعيش تحت خط الفقر، منهم مليون مواطن في أشد حالات الفقر فتكا، ولا يحصلون، ربما، إلا على وجبة واحدة في اليوم، أما الباقون فإن البطاقة التموينية هي مصدرهم الوحيد في الحصول على الغذاء.

من ينظر إلى خارطة انتشار الفقر في العالم يرى أن العدد الأكبر من الفقراء يتركز في دول ومناطق تتميز بانعدام الثروات الطبيعية، وهي عرضة للجفاف والكوارث في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، أما فقراء العراق فيعيشون في بلد الثراء والأرض الخصبة، حيث يتم تصدير مليوني برميل نفط يوميا، وحيث تزيد ميزانية البلاد، لهذا العام على سبيل المثال، على 70 مليار دولار، من دون احتساب الموارد الأخيرة التي أتيحت من البنك الدولي.

إنه لأمر محزن بالطبع، فالجوع أو سوء التغذية لا يتفشى في دول تقل ميزانيتها كثيرا عن ميزانية العراق، وليست لديها موارد مشابهة كالأردن وتونس من منطقتنا مثلا، كما حققت الكثير من البلدان، التي كانت حتى وقت قريب مبتلاة بآفة الجوع، قفزات كبرى على طريق القضاء على الفقر والجوع كالبرازيل والهند والصين وماليزيا والفلبين وتشيلي وغيرها، وهي تواصل إنجاز التزاماتها في تحقيق أهداف الألفية، وخاصة الهدف الأول المعني بالقضاء على الفقر المدقع والجوع.

لا نريد الخوض في تفاصيل المآسي التي مرت بها العراق خلال الثلاثين عاما الأخيرة، وظروفها المعروفة، والتي أدت بالنتيجة إلى الوضع الحالي، باعتباره تراكما لشروط سابقة. ولكن، ومنذ تغيير نظام الحكم السابق، برزت، وتبرز، مؤشرات متناقضة يصعب معها أحيانا إيجاد تفسير مقنع عن سبب تفشي الجوع، وسوء التغذية في العراق بصورة تزيد على المعدل العالمي. فقد صرفت مبالغ كبيرة سواء من موارد وطنية عراقية أو من الدول المانحة، ونفذت مشاريع كثيرة بما فيها مطارات وطرق وجسور ومدارس ومستشفيات ومحطات تصفية مياه وغيرها، وتوفرت فرص للاستثمار الخاص، وانتعشت أسعار النفط، وأطلقت مبادرات لدعم القطاع الزراعي، وأثرى الكثير من الناس في مختلف مناطق العراق، وتحسنت الرواتب بعشرات بل ومئات المرات قياسا بعام 2003، وأنشئ ما يزيد على الثلاثين مصرفا (بنكا) أهليا، إضافة للمصارف الحكومية، وافتتحت لها مئات الفروع في كل المحافظات، كمؤشر على حركة الأموال وقدرة المواطنين على التوفير أو إجراء التعاملات المالية، وازدهرت حركة السفر من وإلى العراق إلى كل دول العالم، وغير ذلك الكثير، ولكن الفقر ما زال متفشيا.

لا بد هنا من الإشارة إلى أن مقارنة المسوحات الاجتماعية والاقتصادية الأخيرة التي جرت في العراق بالمسوحات التي جرت سابقا ترينا نقصا كبيرا في عدد المواطنين المصنفين تحت خط الفقر، فعلى سبيل المثال قدر العدد في عام 2005 بأكثر من اثني عشر مليون شخص في حين أشار المسح الذي أجري في عام 2008 إلى تناقص العدد إلى سبعة ملايين شخص. مع ذلك، فالحقيقة أن ربع السكان تقريبا ما زالوا يعيشون اليوم تحت خط الفقر في العراق، وهي ظاهرة تشكل خطرا جديا على مستقبل المجتمع والدولة، ولا يمكن إغفالها، بل يجب أن تكون هذه الظاهرة بالذات مركز الاهتمام الرئيس لدى السلطات المعنية، إذ ترتبط بها مظاهر أخرى كالأمن والاستقرار الاجتماعي والسياسي للبلاد. ويبدو أن حراكا معينا يأخذ طابع الاجتماعات والمناقشات والإعلان عن مبادرات متخصصة على مستوى الحكومة الوطنية في بغداد، ومؤخرا في عدد من محافظات العراق لمناقشة سبل التخفيف من الفقر ومعالجة آثاره. ومن اللافت للنظر التصريح الأخير لرجل الدين المعروف الشيخ مهدي الكربلائي، خطيب الجمعة وممثل المرجع الأعلى السيد السيستاني في كربلاء، حول مشكلة انتشار الفقر في العراق، ودعوته الحكومة لمعالجة هذا الموضوع، مما يؤشر إلى حجم المعاناة الاجتماعية الضاغطة التي استدعت رجال الدين للتصدي لها في تطور نوعي، ولربما غير مسبوق - حسب علمي - في دور المؤسسة الدينية بتبني مشكلات اجتماعية واقتصادية من هذا النوع.

أما على الصعيد الدولي، فمن الجدير ذكره هنا أن منظمة اليونيسيف الأممية أعلنت خروج العراق من دائرة الدول الواقعة تحت برامج الطوارئ، نظرا لتقدم إمكاناته المادية، ومؤشرات استقراره ونمو اقتصاده. كما طورت منظمة الفاو استراتيجيتها في العراق للانتقال من حالة برامج الطوارئ إلى حالة الدعم التنموي لنفس الأسباب، ولقدرة العراق على تمويل مشاريعه بنفسه، أو الإسهام في تمويل تلك المشاريع إلى جانب المؤسسات الدولية المانحة، وينطبق الأمر على غالبية المنظمات الدولية، ومن ضمنها على سبيل المثال الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (ايفاد) الذي رشح العراق مؤخرا للحصول على قرض ميسر (وليس منحة) يزيد على 18 مليون دولار للقطاع الزراعي.

وكانت الحكومة العراقية قد أطلقت قبل شهور خطتها الاستراتيجية للتخفيف من الفقر، وأعلنت التزامها بتخفيض عدد الفقراء العراقيين إلى خمسة ملايين مواطن، من سبعة ملايين حاليا، وذلك بحلول عام 2014، وربطت ذلك بجملة إجراءات من بينها تقليص نسبة الأمية، وتقليل التفاوت بين الجنسين في المعطيات الإحصائية وغيرها. إن وجود استراتيجية وطنية للتخفيف من الفقر في العراق هو عمل مرحب به ويستحق الدعم، ولكن لدينا ملاحظات لتطوير الاستراتيجية، وغيرها من الإجراءات الأخرى ذات المسعى المشابه، من موقع المشاركة والمسؤولية، وليس من موقع النقد السلبي، لجعلها أكثر طموحا وأكثر قربا من تحقيق أهدافها ويمكن إجمال الملاحظات بما يلي:

أولا - ليس من المنطق أو الإنصاف أن تهدف الاستراتيجية الوطنية لتخفيف الفقر إلى إبقاء خمسة ملايين مواطن تحت خط الفقر في عام 2014. فما ذنب هؤلاء المواطنين؟ ومن هم سيئو الحظ الباقون تحت الخط حتى بعد عام 2014 أو أولئك «السعداء» الذين سيصبحون فوقه؟.

ثانيا - أننا نعتقد أن الاستراتيجية يجب أن تسعى إلى القضاء التام على الفقر وليس التخفيف منه، وهذا هو الهدف الأسمى لاستراتيجية الحكومة، وإن لم تكن السنوات الخمس المعلنة (أي حتى عام 2014) كافية، فلا ضير من تمديد المدة وتغيير آليات التطبيق وتحشيد الموارد المالية وغيرها للقضاء التام على الفقر في العراق، ولا يجب أن تبقى (أو تشعر) أي فئة من المجتمع وكأنها فئة غير مستهدفة ببرامج الحكومة الساعية لانتشالها من براثن الفقر أو الأمية.

ثالثا - أن الخط الوهمي المسمى خط الفقر، والمستخدم في المسح الاجتماعي والاقتصادي الذي كشف وقوع ما يقرب من ربع سكان العراق تحته، هو مبلغ (77) ألف دينار عراقي في الشهر، أي أقل من دولارين في اليوم، يعتبر خطا واطئا كمقياس لدخل المواطن في بلد مثل العراق. إن حصول المواطن على أقل من دولارين في اليوم، في بلد نفطي يصدر مليوني برميل يوميا، وفي المستقبل القريب سيصدر أكثر من عشرة ملايين برميل يوميا، أمر بحاجة إلى مراجعة لأنه لا يبدو مقنعا في ظل تضخم كبير، وانعدام الكثير من الخدمات الأساسية التي يجهد المواطن للحصول عليها (أي شراؤها) بأسعار متصاعدة.

رابعا: على افتراض حصول المواطن على دخل شهري أكثر قليلا من خط الفقر المفترض (لنقل 80 ألف دينار في الشهر مثلا) فإن ذلك يضعه إحصائيا فوق خط الفقر، لكنه يبقى بالطبع فقيرا من الناحية الفعلية، وعاجزا عن تأمين متطلبات الحياة الضرورية، وبالتالي فإن الفقر يشمل فئات مجتمعية كبيرة، إذا ما عرفنا أن الرواتب الشهرية للموظفين والعاملين في القطاعات المختلفة تقترب من هذا الرقم، وخاصة في حالة أولئك الموظفين والعمال والمستخدمين من أصحاب العوائل التي لديها معيل واحد.

خامسا: على الرغم من كون استمرار الدعم المادي للفقراء، عن طريق البطاقة التموينية مثلا، أو غيرها من أشكال الدعم المباشر، إن وجد، وسيلة ناجعة لمواجهة الجوع والفقر مرحليا، فإنه لا يمثل بأي صورة من الصور دحرا نهائيا للفقر والجوع، لأن هذا النوع من الدعم مشروط بظروف محددة، أهمها وفرة العائدات المادية - من النفط الذي يشكل أكثر من 90% من الخزينة في حالة العراق - فهو لذلك يبقى هشا وخاضعا لمدى استقرار السوق النفطية، إذ لا توجد وسيلة أخرى متاحة للحكومة لتسديد فاتورة البطاقة التموينية، التي تزيد على أربعة مليارات دولار سنويا، والتي نعتقد أنها لو استثمرت تنمويا لكان العراق في وضع أفضل بكثير مما هو عليه الآن، ولربما قضي على الفقر والجوع منذ زمن.

سادسا: أن الاستراتيجية الناجحة لدحر الفقر والجوع والقضاء عليهما، يجب أن تضع نصب العين خلق شروط التنمية الاقتصادية القادرة على خلق فرص عمل للمواطنين وإتاحة الفرصة للقطاع الخاص للنمو والاستثمار، وتشغيل الأيدي العاملة، وتأهيل المواطنين حرفيا ومهنيا، وتشجيعهم ودعمهم للعمل والمبادرة بدلا من ثقافة انتظار الهبات والعطايا أو التشغيل في إحدى المؤسسات الحكومية. فمن الجدير ذكره أن الحكومة في العراق هي أكبر مشغل للقوى العاملة في المجتمع وبنسبة تزيد على 40% نظرا لعدم توفر فرص مشابهة في القطاع الخاص بسبب عدم أهليته وضعفه، وجملة شروط أخرى لا مجال لذكرها، مما يجعل حلم أي خريج جامعي (أو خريجة) هو التوظيف في دائرة حكومية.

سابعا: أن دحر آفتي الفقر والجوع يبدأ بتحفيز وتوسيع الميادين الاقتصادية القادرة بطبيعتها على تشغيل أعداد كبيرة من القادرين على العمل وهي قطاعات الفلاحة، والبناء والإعمار، والخدمات، والسياحة. فكيف يمكن القضاء على الجوع في الوقت الذي يتدهور فيه الإنتاج الزراعي، وتتعثر فيه التنمية الريفية، فيفقد نحو ثلث المجتمع العراقي إمكانية البقاء على أرضهم أو إنتاج غذائهم، وفي ظل انتفاء فرص حصولهم على أي عمل آخر في المدن بسبب ظروف معروفة؟ وكيف تنتعش الخدمات والسياحة في ظل انعدام وجود فنادق ومطاعم ومرافق أخرى بشروط إقامة مريحة (ولم نقل بشروط عالمية تواضعا)؟ وكيف يمكن خلق فرص عمل إذا لم توجد رافعة (كرين) واحدة حتى في أكثر مدن ومحافظات العراق استقرارا، مما يدل على شلل حركة العمران والبناء، حتى في ظل توفر رأس المال المناسب، وكون كل البنى التحتية وغالبية الأبنية في طول العراق وعرضه بحاجة إلى تجديد أو إعادة بناء؟

انه لواجب وهدف نبيل، أن تسعى الحكومة للقضاء التام على الجوع والفقر، وانتشال المواطنين من هاتين الآفتين، ولكن الإعلان عن أن استراتيجيتها تهدف إلى تخفيف الفقر على المستوى الوطني من 23% إلى 16% خلال الخمس سنوات المقبلة حتى نهاية عام 2014 هو هدف متواضع، وإذا ما افترضنا أن العراق سيستمر بهذه الوتيرة فإنه سيحتاج إلى أكثر من 15 عاما للقضاء على الجوع والفقر، على أساس تأمين حصول المواطن على دولارين في اليوم، وبدون الأخذ في الاعتبار الزيادة السكانية المحتملة.

إننا نعتقد، وخاصة بعد جولتي التراخيص الأخيرتين في القطاع النفطي، أن استراتيجية تخفيف الفقر بحاجة إلى مراجعة دقيقة في ضوء المعطيات المتحركة، والتغيرات المتوقعة، لتكون أكثر طموحا وتضع نصب العين قضية دحر الجوع، والقضاء التام على الفقر في العراق.

إن العراق قادر على تحقيق الأمن الغذائي لمواطنيه (أي توفير الأغذية في السوق، واستقرار إمداداتها، وتمكين المواطنين من الحصول عليها، واستخدامها) بوتيرة سريعة. وهو قادر أيضا على الوفاء بالتزاماته الدولية، وخاصة في مجال مكافحة الجوع والفقر بإطار أهداف الألفية، ونطمح أن يقف ممثل العراق على منصة الاجتماع القادم المخصص لمراجعة أهداف الألفية، والمقرر عقده قبل نهاية هذا العام، ليعلن عزم العراق على إنجاز التزاماته بتحقيق أهداف الألفية بحلول عام 2015، وليلتحق بركب الأمم المتقدمة التي تحترم التزاماتها الدولية وتحقق لشعبها التقدم المنشود والرفاهية.

وبما أن الريف العراقي هو الميدان الأول لمكافحة الفقر والجوع، فإننا نرى، إضافة إلى ما تقدم من ملاحظات، أن القضاء التام على هاتين الآفتين يتطلب أولا زيادة الاستثمار في الزراعة لتحفيز الإنتاجية واستغلال إمكانات الزراعة في التنمية الاقتصادية وتعديل أسعار الغذاء والمحاصيل، وثانيا تعزيز شبكات الحماية والأمن الاجتماعي للمواطنين الفقراء، وذلك لتجنب التأثير المزدوج لارتفاع أسعار المواد الغذائية بحيث تشكل حافزا للإنتاج الزراعي من جهة، وبنفس الوقت تمكين الفقراء والمعدمين من الحصول على كفايتهم من الغذاء وتجنيبهم عبء زيادة الأسعار.

* الممثل الدائم للعراق لدى منظمة الغذاء والزراعة الدولية والمنظمات الدولية الأخرى في روما