الأسود والضباع.. أصل الحكاية

TT

العدوان يرتبط أشد الارتباط بمرحلة الطفولة، فطاقة العدوان عند الطفل تكون بكرا لا حدود لها، أما حكاية «براءة الأطفال في عينيه» الشهيرة فهي من صنعنا نحن، وربما كانت حقيقية لأن الطفل لا يدرك عدوانيته الغريزية ويراها أمرا طبيعيا تماما كبقية غرائزه وهو ما ينعكس على نظراته التي نعطيها صفة البراءة. غير أن سنوات طويلة من التربية الجيدة وتعليمات الوكالة الوالدية (الأم والأب) وما يصاحبها من ثواب وعقاب، ثم المجتمع ذاته عندما يستحسن ويستهجن سلوكه، سيكون لها جميعا أكبر الأثر في السيطرة علي غريزة العدوان عند الطفل والسير بها في طريق النضج الإنساني، بمعنى تحويل هذا العدوان إلى مسارات مشروعة ومصدَّق عليها من المجتمع بحكم أنها مفيدة للذات وللآخرين، كالمنافسة المشروعة والعمل الشاق من أجل التفوق وأيضا التعصب لأهله وبلده ولفريقه ومطربه وشيخه، مع مراعاة أن يتم كل ذلك في ظل احترام القانون والعادات والثقافة السائدة والعرف الاجتماعي، المهم هو أن تلك الطاقة التي كانت عدوانا لا ضابط له ولا رابط ولا غاية من ممارسته إلا إطعام الغريزة بوجبة شهية من العدوان، سنجدها قد ارتقت عبر سنوات النضج إلى درجة عليا من احترام الذات واحترام الآخر.

سأمدك الآن بمثال لعدوان الطفولة مستمَدّ من حياة شخص من أكثر الناس رقة وتهذيبا ووعيا ومعرفة وهو الأستاذ جهاد الخازن الذي حكى لنا في زاويته أنه وزملاءه الأطفال كانوا يخفون قطعًا من الحجارة الكبيرة في أوراق الجرائد، ثم يضعونها في نهر الشارع، بالطبع لن يحرص قادة السيارات على تفاديها لأنها تبدو مجرد أوراق جرائد ملقاة على الأرض ولا خطر منها. وهكذا يستمتع الأطفال وهم يبتعدون عن المكان بما حققوه من إنجاز، أصوات السيارات بينما أجزاؤها تتكسر وأصحابها يستولي عليهم الفزع والشعور بالضياع والخجل لأنهم لم يتنبهوا للفخ الذي وقعوا فيه. هذا مثال رائع لفهم طبيعة العدوان عند الطفل، لا هدف سوى التسلية والاستمتاع بإحداث الأذى للآخرين عن طريق خداعهم بشرط أن يكونوا كبارا، أو بمعنى أدق، يعتبرهم الطفل المعتدي كبارا. هذه العناصر من الضروري تذكرها عند مناقشة ظاهرة العدوان عند البالغين في مجال السياسة والعلاقات الدولية.

الطفولة هي عالم الأساطير والحواديت والمفاهيم الجاهزة، إذا كان الأسد هو أقوى حيوانات الغابة فلا بد من إطلاق اسمه على الفريق، غير أن قوته ليست كافية، لا بد أن يكون مرعبا أيضا، هم لا يبحثون إذن عن فريق منافس يلعبون معه مباراة بل يبحثون عن أشخاص يرعبونهم. كفاءة التدريبات وإجادة اللعب لا أهمية لها، المهم فقط أن يشعر الآخرون بالرعب منهم. حيوانات الغابة لها حضور حقيقي في عالم الطفولة، ولذلك ستجدهم في أعمارهم الصغيرة أكثر الناس سعادة بزيارة حدائق الحيوان، ولعل ذلك أيضا هو سبب النجاح الساحق لفن الكارتون السينمائي، وفي التراث العربي سنجد «كليلة ودمنة» وكل أشخاص حكاياته من الحيوانات، إنها حكايات ليست مخصصة للأطفال ولكن من المؤكد إنها تخاطب الجانب الطفولي عند البالغين. أما عن طفولتي وما كنت أمارسه من عدوان فقد كان - وأرجو أن تصدقني - في حده الأدنى. سأعطيك مثالا واحدا: في شهر رمضان عندما يأتي في حر الصيف، كانت كل المحلات في دمياط تضع أمامها في المساء على طاولة كبيرة عددا من القلل الممتلئة بالماء المعطر بماء الورد، فكنا نتوقف أنا وزملائي الشياطين الصغار أمام أحد هذه المحلات ونرفع القلل لنشرب، ثم نعيدها إلى أماكنها مقلوبة فتنزل منها المياه إلى الأرض ثم نجري مبتعدين في سعادة. لا خسائر كبيرة، سيعيد صاحب المحل ملء القلل، ولكن أهم عناصر العدوان متوفرة فيها: الخداع، ثم السرور الناتج عن صدمة الضحية وخيبة أملها.

واقعة أخرى كنت أنا بطلها الوحيد، كنت عاشقا لأفلام طرزان وكل الأفلام التي تدور أحداثها في الغابات، وككل الأطفال كنت أتقمص شخصية البطل، البطل يطارد نمرا ومعه حربة، هذا ما يجب أن أفعله، الحربة أمرها سهل، مجرد بوصة من الغاب تنتهي بجزء مسنون، ولكن أين النمر الذي سأطارده بينما أصرخ صرخات الغابة، لا بأس، الحارة تمتلئ بالقطط، قطة منها ستلعب دور الأسد وأنا ألعب دور الصائد، طاردت القطة وأنا أصرخ، فوجئت بأن المهمة صعبة للغاية، وقعت على الرصيف وأُصبتُ في رأسي إصابة بالغة، ولاذت القطة بالفرار، غير أن ما حدث أقنعني حتى الآن بأنني لا أعيش في غابة بل في حارة لا يوجد بها أسود ولا ضباع، يوجد فيها بشر فقط.

أنا أريد أن أصل بك إلى أن الأفكار المتطرفة عند بعض رجال السياسة، ناتجة حتما عن الافتقار إلى النضج الطبيعي عند البشر مما يجعلهم ثابتين عند محطة عدوان الطفولة، ولعل المصطلح الشعبي الشهير «أصل فلان ده، راجل عيّل» هو تلخيص جيد لكل ما قلناه، كما أننا نصف سلوكا سخيفا لشخص أو جماعة ما بأنه «صغَار»، الصغار هنا ليس هو الطفولة التي نمدح بها أحيانا شخصا ناضجا، بل هو عدم القدرة على النضج.

هذه هي النافذة الوحيدة التي أستطيع أن أطل منها على بيان وكالة الأنباء الإيرانية الذي يتكلم عن الأسود والضباع (على الإمارات الكفّ عن سياسة عدْو الضبع خلف الأسد عسى أن يحصل على حقه في الصيد، فلا أسد في المنطقة غير ذلك الرابض على الساحل المقابل لدولة الإمارات، الحارس الأمين لعرينه الخليج الفارسي، أما من يظنّونه أسدا فقد تكسرت مخالبه وأنيابه في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، ولا خير يُرتجى منه أو من صيده). كاتب البيان يعيش أجواء الغابة بأسودها وضباعها وبقية حيواناتها المفترسة، غير أنه لم يذكر كلمة واحدة عن طيورها الجميلة، والنشاط الوحيد في الغابة بالطبع هو الصيد. هو وحده أسد المنطقة، وهو ما يذكرك بلافتات محلات الكباب «ليس لمحلنا فرع آخر» أما الأسد الآخر (يقصد أميركا)، فقد راحت عليه، جرّبونا تجدوا ما يسركم، نحن أسد ما زال متمتعا بكل قوته، لا تعدوا خلف الأسد الأميركي التعبان، اتبعونا تنجوا وتحصلوا على نصيبكم من الصيد. هكذا لخص البيان متاعب المنطقة، في أنها صراع بين أسدين في الغابة وعلى سكان هذه الغابة أن يحزموا أمرهم وينضموا إلى أحدهما، تُرى ما موقع فلسطين والشعب الفلسطيني في هذه الغابة؟ وكيف يرى إسرائيل؟ هل يراها لبؤة تتبع الأسد الأميركي أينما يكون؟ وإذا كان يرى دولة الإمارات ضبعا، فماذا عن بقية الدول العربية؟

هذه المفردات منعدمة الصلة بالسياسة وروح العصر، لا أحد يعمل بالسياسة يقف على منصة ليقول للآخرين: «أيها السادة.. أنا أسد وأنتم مجرد ضباع»، هذه كلمات تصلح جملة حوارية في مسرحية فكاهية كتبها مؤلف غير مسؤول، أما في السياسة فهي ليست إلا إعلانا عن إفلاس سياسي، ترك المسؤولون فيه السياسة بمفرداتها المدنية وانشغلوا بالتطرف والمزيد من التطرف كل طلعة صباح، هي كلمات لأشخاص عجزوا عن التوافق مع الحياة المدنية فلجأوا إلى أقرب غابة يستمدون منها مفرداتهم الغريبة. غير أن هذه المفردات تجعلنا أكثر فهما لما يحدث حولنا من تفجيرات، عندما تقوم بإلغاء الدنيا وتشعر بأنك أسد، ملك الغابة، وأنك لا تعيش في بيت بل في عرين، من الطبيعي أن ترسل الثعالب والذئاب والعقارب والثعابين لتقتل البشر العاديين في أي مكان خارج الغابة، وجود الحياة المدنية في حد ذاته سيشعرك بالغضب والألم، هكذا لا مفر وأنت رابض في عرينك من أن تفكر في تحويل بقية بلاد المنطقة على الأقل إلى غابة، تكون امتدادا لغابة سيادتك.