«الولد الشقي» في جُدّة

TT

«الولد الشقي» هو اللقب الذي اختاره محمود السعدني، أبرز الكتاب الساخرين لنفسه، وهو لقب لا يستحقه غيره، ولمفردة الشقي في التراث الشعبي دلالة خاصة، فهي تعني «الحِدِق مقطّع السمكة وذيلها»، الذي «يفهمها وهي طائرة» كما يقولون، والحق أن السعدني كان كذلك، فهو «ابن بلد» معتق، تعلم في المقهى، والشارع، ومن مخالطة البسطاء أضعاف ما تعلمه على مقاعد الدراسة، ويمكن اعتباره موسوعة شعبية متنقلة، له قاموس مفرداته الحرّاق، وتعبيراته المنقوعة في خفة الدم. جاء إلى جدة ذات عام، وطاف على صالوناتها الأدبية والاجتماعية ضيفا خفيف الظل، ابن نكتة، ولمّاحا، وحينما تعرفت إليه في أحد الصالونات قال لي بظرفه المعتاد:

- لقد شبعت صالونات، وأريد الآن جرعة «صياعة» في مقاهي جدة وحاراتها العتيقة.

فمررنا به ليلتها على حارات البحر والمظلوم واليمن والشام، وبعض مقاهيها، وتعلقت عيناه بـ«رواشن» البيوت، وعرائس الأسطح، وأبواب الدور الخشبية، وهو يقول:

- الله الله.. دي جَدّة بصحيح يا ولدان.

كان يستنشق في الدروب رائحة الزمن، وعطر التاريخ، وهو يقص علينا حكاية جُدّة في الوجدان الشعبي المصري باعتبارها تباشير الوصول إلى البلد الحرام، ويروي أنه كان يحضر صغيرا احتفالات العائدين من الحج، ويستمع إلى حكاياتهم، وكيف كانت تتعالي الزغاريد في المراكب المبحرة، حينما تلوح لهم بيوت جدة، ومآذن مساجدها العتيقة.

أجمل وصف سمعته عن السعدني من سائق تاكسي في محافظة الجيزة حينما فتحت سيرة السعدني، وكان إبانها في منفاه القسري أو الاختياري، فقال:

- السعدني دا راجل قلبه أبيض.. بس لسانه ما يريحوش.

والحقيقة أن السعدني نفسه يعزو إلى قلمه ولسانه الكثير مما جرى عليه. له أسلوبه الخاص، فهو يكتب كما يتحدث، إذا قرأته أو سمعته أحسست به واحدا من «فتوات الجيزة»، أو من أبطال حكايات نجيب محفوظ، ولا أعتقد أن العبارة الساخرة «الحرّاقة» ستجد ابنا مخلصا لها - بعد وفاته - كمحمود السعدني، فهو تركيبة عجيبة من المثقف، و«الحكواتي»، و«ابن البندر»، والصحافي، والسياسي، والفتوة، والأديب، ذاكرته تشبه جراب الحاوي، فيها شيء من كل شيء، إذا تحدث لا تريده أن يصمت، فحكاية «الولد الشقي» مع الزمان حكاية تشبه حكايات الأساطير.

رحم الله السعدني.