العلمانية أم الديمقراطية؟

TT

تتردد على ألسنة اللبراليين واليساريين والديمقراطيين العرب في هذه الأيام شعارات العلمانية والديمقراطية. لم يلتفت أحد منهم إلى التناقض الذي يترتب على الربط بينهما في العالم العربي وكل المناطق المتخلفة من العالم الثالث. المفروض فيهما أن تكونا منسجمتين وتسيران معا. ولكن هذا يصح في الأمم المتطورة والمتعلمة لا في الدول التي تسود فيها الأمية.

بالطبع تأخذ الديمقراطية صورا مختلفة وتقوم على أركان متعددة. الانتخابات والاستفتاءات ليست سوى جزء صغير منها. بيد أن الاعتماد على أصوات كل البالغين والبالغات في مجتمع متخلف تسوده الأمية لا يضمن مطلقا الحصول على حكم عقلاني متحرر. معظم النتائج التي حصلنا عليها في الشرق الأوسط أوضحت أن الأكثرية تعطي أصواتها للأحزاب الأصولية والفئات التقليدية والإقطاعية والذكورية، كما جرى في الجزائر وإيران وتركيا وفلسطين والعراق أو للحكومة القائمة كما جرى في بعض الدول العربية.

لم يستطع مصطفى كمال في تركيا أن يجري إصلاحاته الجذرية ويقيم نظاما علمانيا دون حرمان الأكثرية من حقها في الاقتراع وفرض إرادتها على الدولة. وحتى في الوقت الحاضر، يقف الجيش فقط كحارس للعلمانية والعصرنة ضد رأي الأكثرية.

هل يعني ذلك الاستسلام للدكتاتورية والسلطوية دون رقابة أو تدخل من الرأي العام من أجل تطوير المجتمع وإقامة أنظمة علمانية وحماية حقوق الإنسان؟ هل ينبغي حرمان المواطن من حقه في الاقتراع من أجل حماية حقه في حياة أفضل؟

المشكلة كما أراها هي نفس المشكلة، وأعني بها التقليد الأعمى للغربيين. لأن الديمقراطية الغربية تقوم على حكومة ينتخبها كل البالغين والبالغات، فعلينا أن نحذو حذوهم دون الالتفات إلى الفوارق بين مجتمعنا ومجتمعهم. في الغرب تعليم إلزامي لكل البالغين حتى سن السادسة عشرة. ويعاقبون بالسجن كل من يقصر فيه. أعطاهم ذلك ناخبين على قدر من المعرفة. أكثرية الناخبين عندنا أمّيون ووسائل المعرفة الحرة العقلانية والعلمية لدينا مختصرة وفقيرة جدا، بل ومعدومة في كثير من المناطق. ما الذي يفهمه الأمي الجاهل من متطلبات الحياة السياسية والاقتصادية المعاصرة؟ إعطاء الجميع حق انتخاب الحكومة ونظام الحكم مسخرة لا تؤدي إلى غير دوام التأخر وتجريد المواطنين من حقوقهم المشروعة في اختيار حياتهم وممارسة أعمالهم ومعتقداتهم وهواياتهم. بعبارة أخرى، إنها تطبيق الديمقراطية للوصول إلى الاستبداد ودوام الرجعية.

لا خلاص من هذه الكماشة وتجاوز هذا التناقض بين السعي للديمقراطية وبين التطلع للعقلانية وحياة المجتمع المدني دون حصر حق الانتخاب والتصويت في المتعلمين إلى مستوى معين مقبول، كمستوى الدراسة المتوسطة. هذا هو الضمان الوحيد للحصول على مجلس متنور وأعضاء مسلحين بالمعرفة والإيمان بالتطور. قد يبدو هذا مجحفا بحقوق المواطنين الأميين، ولكنه سيكون حافزا لهم ولأولادهم على التعلم وصولا إلى المرحلة التي يكون الجميع قد تعلموا فيها، وبالتالي نالوا حقهم في ممارسة حقوقهم السياسية.