«آي باد» والوجه الجديد للقراءة

TT

مر علي وقت كانت الكتب فيه المطبوعة الثقيلة بغض النظر عن شكلها وأسلوب تغليفها محط ولع بالغ من جانبي. وكنت أعشق كل ما يتعلق بمكتبات بيع الكتب المستخدمة، بما في ذلك الرائحة العتيقة للورق المتآكل والنسخ المقروءة والسعي الحثيث وراء نسخة جيدة من كتاب قديم مفضل. وما زلت أتذكر الفوضى المحببة لمتجر «ستراند» في نيويورك والمتاجر الصغيرة التي تبيع النسخ الأولى بالقرب من المتحف البريطاني. وقد حرصت دوما على أن أحيط نفسي بكتب على الأرفف وداخل صناديق وفي صورة أكوام عشوائية كثيرا ما يتعثر فيها الزوار.

لكن مرت سنوات طويلة منذ آخر مرة زرت خلالها متجرا للكتب المستخدمة، ومرت شهور منذ آخر مرة اشتريت فيها كتابا جديدا من مكتبة. وتكمن وراء ذلك عدة أسباب، منها أن «أمازون» نجحت في توفير أعداد لا حصر لها من الكتب المتنوعة في متناول يدي. كما سمح لي «كيندل» بشراء معظم الكتب عبر الأثير في غضون أقل من دقيقة. في ذلك الوقت، سيطر السعي وراء الراحة على اهتمامي. وبمرور الوقت بت عاجزا عن شرح الثقافة المعقدة التي أحاطت بالكلمة المطبوعة لأطفالي.

الآن، أقدم ابني الأكبر، إلى جانب مليون آخرين، على شراء جهاز «آي باد» (بماله الخاص) - وهو جهاز لا تزال والدته ترى أنه سيكون من قبيل الإسراف إقدامي على شرائه. لكنني اعتدت اللعب به، وبت عاشقا لحياة «كيندل» القائمة على البطارية. إلا أنني أعاني من العجز عن الكتابة على لوحة المفاتيح الخاص بـ«آي باد» التي تكاد تصيبني بالجنون. ومع ذلك، ما زلت مصرا على أنه ليست هناك مقارنة، ذلك أن «آي باد» يعد واحدا من أكثر الأدوات التي أثمرها عقل الإنسان أناقة ونفعا وجاذبية. أعتقد لو كان نيوتن قد رأى هذا الجهاز لكان أبدى القدر نفسه من الانجذاب نحوه، ولو كان إديسون حيا لكان اشتراه رغم أنف زوجته، وربما كان سيفضل النموذج المزود بـ64 غيغابايت.

بطبيعة الحال، يبقى هناك متشككون حيال «آي باد»، ينظرون إليه باعتباره مجرد نسخة من «آي فون» أضيفت إليها مشكلات في شكله. وكثيرا ما يذكرني هؤلاء بعبارة منسوبة إلى المحرر البريطاني سي بي سكوت تقول «تلفزيون؟ إنها كلمة نصفها يوناني ونصفها الآخر لاتيني. لا يمكن أن تأتي بخير». في الواقع، إن شبكة الإنترنت و«آي باد» معا نجحا في تغيير علاقتنا بالكلمة المكتوبة إلى الأبد، حيث بات في استطاعة الغالبية الآن تحمل تكاليف الدخول إلى «عصر المعلومات»، وأصبحت هناك قدرة على حمل مظاهر هذا العصر وتنظيمها وتعديلها عددا لا نهائيا من المرات. وبات لزاما على جميع المحتويات المستقبلية، بما في ذلك الصحف والكتب، حمل صورة هذا الابتكار.

لقد سبق أن أعربت عن قلقي من أن توقع القراء الحصول على محتوى مجاني عبر شبكة الإنترنت يقوض مستوى جودة هذا المحتوى. وتساءلت: من سيتحمل تكاليف التحقيقات الصحافية والصحافيين العاملين في مكاتب أجنبية ورؤساء التحرير والمراجعين الذين يحرصون على التمييز بين المعلومات الموثوق بها والشائعات المنتشرة على شبكة الإنترنت وآراء أصحاب نظرية المؤامرة؟

إلا أن «آي باد» يمدني بأسباب تدعوني للتفاؤل والأمل، ذلك أن أناقة هذه التقنية ربما تساعد على تحد خطير أمام صناعة المعلومات في حقبة ما بعد الطباعة. من جانبي، لست على استعداد لدفع رسوم اشتراك شهري في صحيفة عبر «كيندل» نظرا لسطحه المسطح الباهت، لكنني على استعداد لدفع اشتراك شهري للاطلاع على محتوى صحيفة عظيمة (كتلك التي تطالعها الآن) عبر «آي باد» المفعم بالحياة الذي يمكنك استخدام شاشته عبر اللمس - ذلك بالطبع لو كنت أملك «آي باد» من الأساس.

مؤخرا، أشار القطب الإعلامي روبرت ميردوخ إلى أنه اختلس «نظرة سريعة على المستقبل خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي عبر جهاز (آي باد آبل). إنه جهاز رائع. إذا توافر لدينا عدد أقل من الصحف ومزيد من هذه الأجهزة، ربما يسهم ذلك في إنقاذ صناعة الصحف». لكن لماذا؟ يعلل ميردوخ السبب بأن «المحتوى ليس السيد فحسب، وإنما إمبراطور كل ما هو إلكتروني»، مؤكدا أن أجهزة مثل «آي باد» لن تكون ذات قيمة حقيقية من دون صانعي المحتوى.

إذن نجد أنه حتى عاشقو الكتب أمثالي لن يحجموا عن شراء الكتب التي تتوافر عبر شبكة الإنترنت لأنها تمثل قفزة كبرى على صعيد توفير الراحة. ونعلم أن الناس سيقبلون على وسائل الإعلام الجيدة والأخرى غير الموثوق بها عبر شبكة الإنترنت إذا توافرت مجانا.

عبر «آي باد» (ومنافسيه) سنتمكن من اختبار إذا ما كان الناس على استعداد لدفع أموال مقابل الاطلاع على محتوى إخباري ممتاز عبر وسيط يعزز الفائدة والمتعة، أم لا.

أما من يحنون منا إلى الماضي والحبر وصوت الورق فسيبقى بداخلهم الحنين، لكن تبقى الحقيقة أنه لا مجال للمقارنة. إن الأجهزة الجديدة تجعل المرء يشعر وكأنه قائد فرقة موسيقية أو ساحر قادر على أن يجوب عوالم مختلفة بلمسة واحدة. وأعتقد أن كثيرا من السحرة على استعداد للتنازل عن قواهم السحرية مقابل الحصول على هذا الجهاز الخلاب، الأمر الذي فعله مليون شخص بالفعل.

* خدمة «واشنطن بوست»