لبنان: مشروع الإصلاح والتغيير يتراجع إلى مستوى القرى والأحياء

TT

لا تبتغوا بالمنى فوزا لأنفسكم

لا يصدق الفوز ما لم يصدق الطلبُ

(إبراهيم اليازجي)

في الانتخابات العامة اللبنانية عام 2005 اكتسحت لوائح تيار الجنرال ميشال عون الدوائر الشمالية الثلاث من محافظة جبل لبنان، حيث توجد أغلبية سكانية مسيحية، بما فيها دائرة قضاء جبيل ذات الحضور الشيعي الوازن.

يومذاك، بعد جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق الراحل رفيق الحريري ورفاقه، تعمد الجنرال العائد من منفاه في فرنسا الانقلاب على تحالف 14 آذار بحجة رفض هذا التحالف، «الاعتراف بحجمه الحقيقي»، وبالتالي، منحه «ما يستحقه ذلك الحجم من مقاعد نيابية».

في تلك الفترة، فاتت كثيرين صفقتان تكشفتا لاحقا.

الصفقة الأولى، كانت عبارة عن اتفاق ضمني بين الجنرال وتحالف 8 آذار وأركان عهد رئيس الجمهورية السابق ولفيف من كبار مستشاريه وجهات خارجية نافذة على الساحة اللبنانية تقضي بطرح عون شروطا تعجيزية على تحالف 14 آذار - الذي شاطره شعارات الحرية والسيادة والاستقلال - خصيصا، لكي يرفضها تحالف 14 آذار. وبناء عليه، يتوافر المبرر لانقلاب عون، وتصوير نفسه في الشارع المسيحي على أنه «شهيد».. سقط دفاعا عن حقوق المسيحيين ضد تسلط المسلمين، وتحديدا السنة والدروز.

والصفقة الثانية، جاءت عندما نسج عون، بينما كان يدعي أنه «شهيد» تسلط المسلمين، وبصورة غير معلنة تحالفين محليين في كل من دائرتي جبيل (جبل لبنان) وزحلة (البقاع) مع حزب الله والقوى المحلية المؤتلفة معه. وهذا على عكس التفاهم العلني الذي عقدته مع حزب الله في الوقت نفسه قيادات «14 آذار» المسلمة في كل من بيروت والمتن الجنوبي من منطلق حرص الفريقين على قطع الطريق على فتنة إسلامية - إسلامية محتملة في تلك الحقبة المتوترة من عمر لبنان. وهكذا، انتصر مرشحو عون في جبيل وزحلة، بجانب المتن الشمالي بفضل ثقل أصوات حزب الطاشناق الأرمني.

بعد تلك الانتخابات واكتشاف كثرة من اللبنانيين حقيقة الصفقتين، وصدور كتب شرحت ملابسات الاتصالات التي كانت تُجرى مع الجنرال في منفاه وتضع له «سيناريو» عودته في الوقت المناسب ووفق الشروط المناسبة والثمن السياسي المناسب، قامت استراتيجية التيار العوني في خطابها السياسي، وأيضا ممارساتها الميدانية - بما فيها الاعتصام الذي شل بيروت قرابة السنة - على وهمين اثنين:

الوهم الأول أنه القوة المسيحية الأكبر، ويجب التعامل معه على هذا الأساس. والوهم الثاني، أنه وحده القوة الإصلاحية الرافضة للفساد والداعية إلى التغيير، وأن كل الذين يناصبونه العداء إنما يفعلون ذلك خشية نظافته وحرصه المحموم على تأديب اللصوص والفاسدين والمفسدين.. والعياذ بالله.

لكن الغريب في أمر كل الكلام الساحق الماحق عن نظافة اليد وفضح الفاسدين وملاحقتهم ومعاقبتهم أنه لم يترجم على الأرض إلا في حالات كيدية وشخصية محدودة لم تسفر عن أي إدانة. ومع هذا، وعلى الرغم من أن هذه «المعزوفة» أخذت شيئا فشيئا تفقد جاذبيتها، فإن التيار العوني لا يزال يكررها «موسميا» قبل أي اختبار انتخابي، أو مناسبة تنافسية على أي مستوى كان، بما فيها مجالس طلبة المدارس. ولا يزال التيار يضع نفسه في منزلة فوق منزلة البشر العاديين، مع أن عددا من محازبيه، بل ومن «حكمائه» المخضرمين من مؤسسيه وزملاء زعيمه، يوجهون منذ بعض الوقت انتقادات صريحة جدا لحالات التفرد والمحسوبية، ناهيك عن الانقلاب الكامل على ما كان معدودا من «الثوابت» السياسية المبدئية.

وخلال الانتخابات العامة في العام الماضي، اتضح للجميع كم كان التيار العوني مدينا للصوت غير المسيحي في الدوائر التي فاز بها، وكم تراجعت حصته من الأصوات المسيحية غير الأرمنية في طول البلاد وعرضها. وكان أسطع دليل على ذلك الهزيمتان اللتان مني بهما في بيروت (الشرقية) وزحلة.. أكبر مدينة مسيحية في المشرق العربي. ولكن، مع هذا، وجنبا إلى جنب مع الخطاب «الانفتاحي» الذي يبدو في ظاهره فوق مستوى العصبيات الطائفية، تعود ماكينة التيار في كل مناسبة إلى نغمة «تحرير» الصوت المسيحي والإرادة المسيحية في الدوائر المختلطة، وطبعا، نغمة النظافة ومحاربة الفساد في الدوائر المسيحية!

وحتى قبل نكسات التيار المروعة في الانتخابات البلدية (المحلية) بجبل لبنان، سعى الجنرال إلى تقسيم بيروت أملا في الثأر من مناوئيه المسيحيين الذين هزموه في أحيائها الشرقية المسيحية خلال الانتخابات العامة (النيابية) في العام الماضي. غير أن رفض مطالبه، دفعه إلى الانكفاء وإعلان انسحابه من معركة بلدية بيروت الموحدة للتركيز بدلا من ذلك على انتخابات المختارين أو المخاتير (جمع مختار)، وهي تتعلق بعُمد الأحياء، حيث لكل حي مختاره - أو عُمدته.

هكذا، بقدرة قادر تراجعت بالأمس القريب المشاريع «الوطنية» الطويلة العريضة التي طالما ادعت العمل على بناء مواطن «سوبر»، ومجتمع أكثر من «سوبر» عبر التغيير والإصلاح، إلى شل تشكيل الحكومة لعدة شهور ما لم يعين الصهر وزيرا.. واليوم تراجعت إلى معارك عرض عضلات شخصية في الأزقة والأحياء والقرى الصغيرة.

سبحان مغير الأحوال.