أميركية سوداء تصنع التاريخ

TT

إن كان أوباما دخل تاريخ أميركا كأول مواطن أميركي من أصول أفريقية يتربع على عرش أكبر دولة في كوكبنا، فإن سيدة أميركية سمراء مغمورة اسمها «باربرا لي» قد دخلت التاريخ لتكون العضو الوحيد في الكونغرس الأميركي الذي يعترض على التفويض المطلق الذي منحه الكونغرس للرئيس الأميركي بوش الابن لبدء حملة للثأر الفوري من الدول والجماعات التي خططت لجريمة أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أو عاونت في تنفيذها، تصوروا أن اعتراضها جاء بعد أربعة أيام فقط من هذه الأحداث الرهيبة!

من المنطق في ذلك الوقت ألا يكون هناك تقبل لأي مناظرة أو معارضة حول الحدث وأسبابه، أو حتى تبعات الثأر الذي قاده الرئيس الأميركي بوش بحماسة شديدة، كانت الأمة الأميركية في حال من الذهول والصدمة الجماعية وصلت إلى درجة المطالبة على بعض أعمدة الصحف الأميركية بالانتقام الفوري من أي عربي وأي مسلم لم ير لحجمها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، لقد قتل الآلاف من المواطنين الأميركيين الأبرياء في البرجين الشهيرين وهم يؤدون أعمالهم، وأسقط الإرهابيون طائراتهم المدنية وتعرضت أمتهم العظيمة بولاياتها الـ51 للارتباك، لهذا كان اعتراض باربرا مثيرا ولافتا.

ليست ضخامة الحدث في عدد الضحايا الأبرياء فحسب، لكن الأكثر صدمة إحساس المواطن الأميركي باختلال أمنه وتعريض اقتصاده ومؤسساته للخطر، ومع ذلك يأتي يوم 15 سبتمبر وهو يوم التصويت في الكونغرس على استخدام القوة ليكون اليوم التاريخي لهذه السيدة العجيبة، تأملت السيدة باربرا في الزرين الأحمر والأخضر، ثم ضغطت زر الاعتراض الأحمر لينفجر بعده حالة من الغضب العارم في الشارع الأميركي، حتى حامت حول مكتبها في واشنطن ثلة من رجال الأمن الأميركيين بملابس مدنية خوفا من أن تتعرض للقتل، ووصلها عبر الإنترنت عبارة تقول «تخلصوا من باربرا» والفعل الذي استخدموه dump يعني رمي شيء في الزبالة، لكنه في اللهجة الأميركية الدارجة يقصد به القتل، كما ركبوا صورة فوتوغرافية لباربرا بابتسامة رضا عريضة على صورة البرجين وهما يحترقان.

تأملوا يا سادة مواقف هذه السيدة الأميركية العاقلة، وحتى تدركوا أن ضغطها على الزر الأحمر الاعتراضي كان مبعثه وعيا لافتا ونظرة استشرافية عميقة للمستقبل، فعندما قابلت الرئيس الأميركي كان المراقبون يتوقعون منها لقاء عاصفا، لكنها بكل هدوء وثقة قالت للرئيس «يجب أن ننهض بإيمان أكبر بالديمقراطية وبدستورنا وبإخواننا البشر، كما يجب أن نخرج من هذا الصراع أكثر إخلاصا للسلام وأكثر وعيا بالعالم من حولنا وأكثر أمانا»، لقد عوملت حينها وكأنها منبوذة أو مخلوقة من الفضاء الخارجي، لكن أثبتت الأيام أن الحق معها وأن الذي جنته أميركا من الروح الانتقامية العنيفة قد جلبت على أميركا مزيدا من الخسائر، وأصبحت بسبب غطرسة سياستها الدولة المكروهة رقم واحد في العالم، وكل ساستها الآن ومفكريها وقادة الرأي فيها يريدون إصلاح ما أفسده العطار بوش وما انتخاب أوباما إلا خطوة لإصلاح فساد هذا العطار، كانت باربرا تريد جاهدة أن تضع عصا لكبح دولاب «بوش» المنطلق بأميركا بجنون فاتهموها بالجنون، والأميركيون أدركوا الآن أكثر من أي وقت مضى أن التاريخ قد حكم لصالح باربرا ضد رئيسها الذي أورد بلاده والعالم معه مهالك سياسية واقتصادية مدمرة.

ما ذكرته لكم هو قطفة واحدة من بستان مثمر لكتاب ممتع اسمه «حرب المعلومات» لمؤلفته الأميركية نانسي سنو، وقد ترجمه باقتدار وأهدانيه، الأكاديمي الجلد والإعلامي المشاكس الصديق الدكتور أحمد بن راشد بن سعيد، تحدثت فيه المؤلفة عن أخطر أنواع الدعاية في أميركا، والدعاية «البروبوغندا» في أميركا أقل لفتا للانتباه، وهذا النوع من الدعاية أشد خطرا وأكثر فتكا، وهذا ما حاولت المؤلفة سنو لفت النظر إليه في كتابها، وهو ما لم ينتبه له كثير من الغافلين والمغفلين والتغفيليين داخل أميركا وخارجها.