البيئات والجينات

TT

أثار القارئ الفاضل نهاد شامايا، وهو من نصارى شمال العراق، موضوعا مهما من مواضيع علم الأجناس، الأنثروبولوجيا، في تعليقه على ما كتبت بشأن سيماء المسيحيين العرب وهيئتهم. كنت قد قلت إن البشرة البيضاء والعيون الفاتحة (زرقاء/ رصاصية/ عسلية) والقامة الطويلة والأنف الدقيق يعود إلى انحدارهم من أصول أوروبية: روم، صليبيين، عساكر إنجليز وفرنسيين... وهلم جرا. ينفي الأخ شامايا ذلك ويعزو هذه المميزات إلى البيئة، والعيش في مناطق جبلية تكسوها الأشجار والثلوج والمياه الغزيرة ونحو ذلك.

المؤسف أنني تعرضت لموضوع علمي معقد في زاوية صحافية صغيرة. وضيقها لم يسمح لي بغير تناول جانب واحد من الموضوع الذي يتطلب مجلدات. صفات الأحياء (البشر والحيوان والنبات) تتوقف على عوامل كثيرة متشابكة. لقد ذكرت فقط عامل الوراثة. لا ننتظر من أسرة أفريقية سوداء هاجرت إلى السويد أن تعطينا أولادا بيض البشرة، زرق العيون، لأنهم أخذوا يعيشون في السويد. نواجه هنا عامل الجينات. المسيحيون الأوروبيون الذين اجتاحوا الشرق الأوسط تركوا جيناتهم في العوائل المسيحية العربية.

البيئة عامل آخر. لكنها تتطلب زمنا طويلا لتحدث أثرها. أهم عنصر في البيئة حسب رأيي هو الشمس. كلما اقتربنا من خط الاستواء ازدادت البشرة غمقا وسوادا ليستطيع الإنسان أن يتقي أشعة الشمس القوية بتغذية جلده بالأصباغ. لهذا يتعرض الأوروبي لسرطان الجلد عند معيشته في المناطق الاستوائية لأنه لا يحمل هذه الأصباغ الواقية.

لم يتعرض نصارى الموصل للغزو الأوروبي كما تعرض نصارى بلاد الشام، ولهذا أتفق مع الأخ شامايا في أن ألوانهم الفاتحة تعود لبيئتهم الجبلية الشمالية. الدليل على ذلك أن المسلمين الأكراد الذين يعيشون في المنطقة الشمالية نفسها يحملون الصفات نفسها، وما هم بنصارى. العيش في محيط جبلي يفرض على البشر طول القامة ليستطيع الإنسان أن يتسلق الصخور، في حين أن العيش في الغابات والأحراش يتطلب قامة قصيرة تتقي أغصان الشجر. وهذا سر قصر قامة الأفريقيين.

ما ينبغي تذكره هو أن كل هذه الصفات لم تنشأ بين ليلة وضحاها، وإنما هي حصيلة ملايين السنين من العيش في البيئة المعينة. السؤال الذي شغل العلماء هو كيف تنتقل هذه الصفة المشتقة من البيئة فتدخل في جينات المخلوق وتصبح جزءا من موروثاته يرثها أولاده وأولاد أولاده رغم انتقالهم إلى بيئة جديدة لا تتطلب تلك الصفات؟

الاقتصاد عامل آخر في سمات البشر. يتميز غالبا أولاد الأغنياء بطول القامة وبياض البشرة وجمال المحيا. والسبب هو أن ثروة آبائهم وأجدادهم مكنتهم من اختيار زوجات بهذه الصفات الجميلة. المعروف عن اليهود تاريخيا قصر قامتهم وانحناء ظهورهم. من أسباب ذلك أن رجالهم كانوا يفضلون المرأة الذليلة والمطيعة والقنوعة التي تمشي وهي تطأطئ رأسها وظهرها. فراحت تنجب أولادا لهم بهذه الصفات. لم يفطنوا إلى أن مرض السل كان غالبا هو الذي يجعل المرأة تمشي بهذا الشكل، فتكأكئ بصدرها. وهذا مما أدى إلى شيوع مرض السل بين اليهود تاريخيا.

ولله في خلقه شؤون.