يحكى أن أسدا وفيلا بالعراق..

TT

مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراقي، وصقر الأكراد، يقول إن من يحلم بعودة الدولة المركزية القوية في العراق فإنما هو غاطس في أحلام العصافير.

وكالة الأنباء الإيرانية تقول إن على دولة الإمارات أن تكف عن سياسة ممارسة الضبع للعدو خلف الأسد طمعا ببقايا فريسته، فلا أسد في المنطقة إلا إيران، أما الأسد الأميركي، كما أشار البيان الإيراني، فهو أسد جريح ومنهك! (وقد كتب الأستاذ علي سالم مقالا جميلا حول هذا، الأحد الماضي، في هذه الجريدة).

إنها انفلاتات لغوية لا واعية تغرف من معين التصور العميق لحال العراق الآن، الذي هو أشبه بحال الغابة، ويتحكم فيه قانون المخلب والناب، ومطاردة الفريسة، وهروب الفريسة، فنحن أمام دينامكية سياسية، السيد فيها هو قدرة المفترس على الافتراس أو قدرة الفريسة على الهرب والمراوغة، وبين هذا وذاك طبعا، كما نرى في قناة «إينميل بلانيت» طيور جوارح وصغار السباع من ضباع وغيرها تنتظر فراغ المفترس من الفريسة لكي تأخذ نصيبها، أما إذا أفلحت الفريسة في الهرب فإن هذا لا يعني إلا توتر المفترس وربما ارتكابه لبعض التصرفات الشاذة عن المعتاد منه، كأن يفترس سبعا آخر أو يخرج من الغابة ليهاجم الإنسان..

الإنسان «حيوان سياسي» كما قال فيلسوف الإغريق، وأساس فهم الصراعات السياسية، ينطلق من محاكاة غرائز الحيوان وصراعات المجاميع على المرعى والفرائس والتزاوج، أي المصالح بالمعنى المادي المباشر، هذا في المعنى الغرائزي «الخام» وهو هكذا مع سياسات الإنسان، لكنه مقنّع بعشرات الأقنعة التجريدية والمثالية والمعقدة، كما يشرح باقتدار المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه الأخير «ديوان السياسة».

العراق الآن «فريسة»، أو مرج أخضر تتحرك فيه الفرائس، وتفيض فيه المياه والثمار، وهناك سباع وجوارح جائعة في الجوار، تريد الانقضاض على هذه الجنة والاقتناص منها، هناك السبع الإيراني، أو الأسد الإيراني كما يصف نفسه، هو أسد مرتاح وغير منهك ولا يعاني من مشكلات عكس الأسد الأميركي، أيضا حسب الوصف الإيراني، وهناك الأسد الأميركي، وأفضل وصفه بالفيل الأميركي، رغم أن الفيل هو رمز الجمهوريين لا الديمقراطيين فرمزهم الحمار ومنهم أوباما..

الفيل الأميركي أقرب للدقة، فالفيل حيوان ضخم ومخيف الغضب، حتى الأسود والسباع تذعر منه إذا هاج وماج، وهو حيوان معقد جدا في عواطفه، يعاني من بلادة ظاهرة تجاه الحيوانات الأخرى، وأحيانا ترشح منه عاطفة ساخنة للدرجة التي يذرف فيها الدموع، لكن الأهم من هذا كله هو أن الفيل كما نعرف في المثل إذا دخل محل الخزف بالغلط فأفضل شيء يفعله هو أن لا يتحرك البتة، لأن أي حركة منه تعني المزيد من التلف والكوارث.

هل نقول إن الفيل الأميركي دخل إلى متجر الخزف العراقي؟ ربما، لكن الأكيد هو أن الفيل الأميركي الآن يحاول الخروج من هذا المتجر بأي طريقة، رغم أنه قد يتلف المحل كله ويهشم محتوياته، إلا إذا أعاد ترتيب هذه المحتويات، بحيث أبعدها عن أي يد، أو ذيل، يكسرها، وصانها عن عبث العابثين.

الفيل هو الأقوى من الأسود والجوارح، ولكنه يحتاج إلى شيء من الأناة للخروج الآمن من العراق. فخروج فوضوي ونزق هو تماما مثل هزيمة كاسحة في ساحة المعركة، ولا ندري هل أميركا، كما قال وزير الخارجية السعودي قبل فترة، سلمت العراق للإيرانيين، ولماذا؟! شخصيا لا أظن ذلك. فهناك حسابات أخرى.

من المهم هنا، وبعيدا عن حديث الحيوانات، أن نفرق بشدة بين الدعاية الإيرانية والحقيقة الإيرانية، فآلة إيران الإعلامية نشطة، لا تتوقف عن نفخ العضلات واستعراض القوة والتهويش، وآخر ذلك أن أحمدي نجاد توعد بالإطاحة بالرئيس الأميركي أوباما إذا ما فرض عقوبات على إيران، ومثل ذلك حديث الدعاية الإيرانية عن أنها أسد المنطقة كلها، ولا أسد غيرها، حتى الرئيس السوري بشار الأسد! وأيضا حديث الدعاية الإيرانية عن صواريخها وألغامها البحرية وجماعاتها المقاومة، فجزء من هذا الكلام صحيح وجزء منه كلام شعري، لكن الأهم هو أنه يشير إلى حجم العمى الإيراني والاندفاع الغرائزي اللاواعي خلف أوهام القوة، وما يخشاه المرء أن حال الغرب وأميركا مع إيران ينطبق عليه ما قاله شاعر العربية الأكبر المتنبي عن حال إنسان تمادى في الجرأة على من كان معه صبورا أو متأنيا، حيث قال المتنبي:

وجاهل.. جاهل قد غره ضحكي/ حتى أتته يد فراسة وفم!

بل المخيف الأكثر، وكان يجب أن يعي ذلك حكماء النظام الخميني، هو أن إدارة أوباما متهمة أصلا من قبل اليمين الأميركي والحزب الجمهوري المنافس بالتقاعس حيال التهديدات الكبرى لمصالح أميركا في الشرق الأوسط، ويستدلون على ذلك بانفتاح واشنطن على دمشق مؤخرا دون أن تبدي الأخيرة أي تحول جوهري في سياساتها إزاء السلام والإرهاب، ولذلك عطل الجمهوريون قرار تعيين سفير أميركي في دمشق، أقله إلى حين، فكيف ستكون حجم الضغوط المسلطة على إدارة أوباما للتعامل بحزم مع التهديد الإيراني، خصوصا وأن الحليفة إسرائيل تتربص بها الدوائر، أي أن اندفاع إيران أكثر في سياسة المصادمة والمناطحة، يضيق الهامش على سياسة أوباما التي وصل على متنها للرئاسة الأميركية وهي سياسة الحوار لا الحرب.

الخشية أن إيران الخمينية، لا أميركا، هي الأسد الجريح المنهك بعد أن هجرته أشباله ولبؤاته وتساقط شعر لبدته ولانت عظامه وسوست أنيابه، حيث إن المشكلة في إيران هي خلف الأسد وليست أمامه! هناك ثورة مدنية حقيقية في إيران، ولا يهم هنا - حيث اعترض علي بعض القراء في مناسبات سابقة حين أشرت إلى أهمية الداخل الإيراني - لا يهم أن يكون موسوي أو خاتمي أو كروبي مع حق إيران في امتلاك النووي أو السيطرة على جزر الإمارات، وأنهم لا يختلفون عنه، المهم هنا هو أن هناك تنازعا عميقا على السلطة وتفسير أساسها الفكري العقائدي القائم على نظرية ولاية الفقيه، وعليه فالأسد الإيراني الذي يخوفنا به البعض، لا يستطيع الانقضاض لأنه مشغول بما تحت أرجله من أرض زلقة أو بما خلفه من أسود إيرانية أخرى تجرب أن تزيحه عن المكان، وحتى لو انقض وهو بهذه الحال فسيكون انقضاضه غير محسوب ولا موزون لأنه لم ينقض وهو في غاية التركيز والصفاء والمراقبة الصحيحة للمشهد، بل ربما يكون انقضاضه هروبا من إزعاج الداخل!

أما العراق، الذي ينظر إليه الأسد الإيراني بوصفه مسرحا له، فهو أيضا ليس بالسهولة التي يتخيلها، ففضلا عن مزاحمة وهيمنة الفيل الأميركي عليه، يخبئ خلف أغصانه وأدغاله مئات الضباع التي يكفي عشرة منها لطرد أسد أو حتى افتراسه، أيضا كما نرى في قنوات الحيوانات المتخصصة! وهناك طيور جارحة لا يقدر الأسد على رؤيتها فضلا عن الإمساك بها لأنها ليست مرتهنة له ولا تحتاج إليه.

وبعد: العراق ليس فريسة ولا مسرحا إلا بقدر ما هو ضعيف المناعة بعد العمليات الجراحية المتتابعة عليه الفاشل منها والناجح، والفاشل أكثر، لكن في اللحظة التي يقوى فيها ويشتد عوده، فلن يعود للإيراني أسد، حقيقي أو ورقي يهدد به، ولن يعود للسيد بارزاني (مع انحيازنا لمظالم الكرد) قدرة على تهميش العراق - الدولة الصلبة، لصالح العراق - الكانتونات الرخوة، سيعود، لكنه سيعود عراقا يستفيد من هذه الدروس ولا يكرر نماذج صدام حسين أو سجون باقر صولاغ ونوري المالكي.. ولا عصابات الإرهاب السنية القاعدية.

العراق أقوى من كل الأسود والأفيال.. يحتاج فقط إلى فترة نقاهة، وجرعة عقل وشربة من ماء دجلة والفرات تعيد الإحساس بمعرفة: ما هو العراق حقا.

[email protected]