سياسات التقشف

TT

داخل أميركا، من الصعب إدراك أهمية الانتخابات البريطانية وأعمال الشغب اليونانية. لا علاقة لذلك بنا، أليس كذلك؟ حسنا، أود تركيز الانتباه على الدراما التي تحدث هنا، وقد تصل إلى مسرح قريب منك. القصة التي تقف وراء الانتخابات البريطانية والتباطؤ اليوناني وحركة «حفل شاي» داخل أميركا هي هذه: كان آباؤنا «الجيل الأعظم»، وقد حصلوا على هذا اللقب بتقديم تضحيات كبيرة ووضع استثمارات من أجل بناء عالم خصب لنا. وتبين أن جيلي «جيل طفرة المواليد» (المولودون بعد الحرب العالمية الثانية ما بين عامي 1946 و1964) هو «جيل الجراد»، على حد تعبير الكاتب كورت أندرسون. لقد أكلنا ما تركه الأجداد مثل جراد جائع. والآن نحتاج مع أولادنا أن نكون جيل «التجديد»، وأن نرفع الدخول مجددا ولكن بطريقة مستدامة اقتصاديا وبيئيا.

تربى «جيل طفرة المواليد» في أميركا وأوروبا الغربية على اعتقاد أن هناك ساحرة، يمكن لسحرها أن يساعد المحافظين على تقليل الضرائب من دون تخفيض الخدمات، وأن يساعد الليبراليين على توسيع الخدمات من دون زيادة الضرائب. وتقوم الساحرة بذلك من خلال طبع نقود ومن خلال محاسبة زائفة ومن خلال خداعنا، وبجعلنا نفكر أنه بالاقتراض من الصين أو ألمانيا أو عن طريق خلق أدوات مالية دخيلة ليتعامل بعضنا مع بعض، سوف نكوِّن ثروة.

أصبحت اليونان، على سبيل المثال، مثل «جنرال موتورز». وكما هو الحال في إدارة شركة «جنرال موتورز»، استخدم الساسة اليونانيون الأموال السهلة والدعم الذي يأتي مع عضوية الاتحاد الأوروبي، ليكونوا أكثر فسادا بدلا من أن يكونوا أكثر قدرة تنافسية، وأصبحوا أقل رغبة في تحصيل ضرائب وغير تنافسيين. وطبقا للقانون اليوناني فإن أي شخص في وظائف «خطرة» محددة يمكن أن يتقاعد بمعاش كامل في سن الخمسين للنساء و55 للرجال، ومن بينهم الحلاق الذي يستخدم الكثير من الأصباغ الكيميائية والشامبوهات. وداخل بريطانيا يستطيع كل شخص فوق الستين الحصول على علاوة سنوية ليدفعها لفاتورة التدفئة، ويمكن أن يركب أي حافلة محلية مجانا. هذا شيء جميل، لو كنت تستطيع تحمّل ذلك. ولكن لا يمكن لبريطانيا، التي تقترض 25 في المائة من ميزانية الحكومة حاليا، تحمّل ذلك لمدة أخرى.

تمثل بريطانيا واليونان نموذجا على سياسة العطاء المشوهة الجديدة، حيث سيكون على جيل طفرة المواليد قبول خصومات كبيرة في الامتيازات والمعاشات حاليا حتى يحصل أطفالهم على وظائف، وكي لا يكونوا مثقلين بالديون في المستقبل، وإلا فنحن مقبلون على صراع بين الأجيال داخل الغرب.

أخبرني ديفيد ويليتس، مرشح بريطاني محافظ ومؤلف كتاب جديد بعنوان «الألم: كيف استحوذ جيل طفرة المواليد على مستقبل أطفالهم - وكيف يمكنهم إعادته»، أن أكثر الإعلانات الدعائية التي قدمها المحافظون فاعلية خلال حملتهم تمثلت في ملصق حمل صورة طفل حديث الولادة تحت عنوان «ورث عيون الأب وأنف الأم وديون غوردن براون». وفي ما وراء ذلك، حمل الملصق عنوانا آخر يقول: «أزمة ديون حزب العمال: كل طفل بريطاني يولد مدين بـ17.000 جنيه إسترليني. إنهم يستحقون أفضل من ذلك».

من جانبه شرح جون مكيلثوايت، رئيس تحرير «إكونوميست»، أن أكثر ما يلفت الانتباه في الانتخابات البريطانية أنها قد تكون أول انتخابات غربية «تعتمد على الألم»، حيث عمد جميع المرشحين البارزين إلى تحذير الناخبين من «إجراءات تقليص قادمة»، لكنّ أيا منهم لم يتمتع بدرجة كافية من الصدق كي يكشف مدى عمق هذه الإجراءات.

في ما يلي الوصف الذي طرحته «فايننشال تايمز» في 26 أبريل (نيسان) الماضي: «سيتعين على الحكومة المقبلة تقليص الأجور في القطاع العام وتجميد الإعانات وتقليص الوظائف وإلغاء عدد من مستحقات الرفاهية وتنفيذ إجراءات تقليص في برامج مثل بناء المدارس وصيانة الطرق». ومن السيئ للغاية أن الانتخابات البريطانية لم تثمر عن فوز حزب واحد بالأغلبية كي يتمكن من تنفيذ هذه المهمة.

بعد 65 عاما قامت الحياة السياسية في الغرب في معظمها على تقديم تنازلات للناخبين، وتحول الأمر في معظمه الآن إلى استخلاص أشياء من الناخبين. ولا يعد هذا الأمر بالهين، ولكم أن تسألوا البرلمانيين اليونانيين الذين في أعقاب الإعلان عن إجراءات تقشف راديكالية وجدوا برلمانهم محاصرا بأعمال شغب من جانب متظاهرين رافضين لهذه الإجراءات، وتعالت أصواتهم بعبارات مثل «أحرقوا هذا البرلمان الداعر!».

أعتقد أن السياسيين الأميركيين والأوروبيين سيتعين عليهم التحلي بقدر أكبر من الذكاء والصدق. وسيتعين عليهم صياغة سبل لزيادة بعض الضرائب لجني مزيد من العائدات، في الوقت الذي سيتعين عليهم تقليص ضرائب أخرى لتحفيز النمو وبعض الخدمات لتوفير المال، مع الاستثمار في مشروعات جديدة متعلقة بالبنية التحتية لتعزيز القدرات الاقتصادية. الآن بات علينا استغلال كل دولار بحرص لأننا استنفدنا احتياطياتنا، ولأن آلهة النظام جاءت الآن لتعاقبنا على ما اقترفناه، ولأن عصر التنازلات السخية ولى بلا رجعة.

* خدمة «نيويورك تايمز»