العلاقات العربية الكردية بين الاختلال والتوازن

TT

تشهد اللوحة السياسية العراقية الراهنة، المضطربة أصلا، جهودا عربية وإسلامية كبيرة، هدفها حض القوائم الفائزة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة على تجاوز خلافاتها والاتفاق على شراكة وطنية واسعة تساعد في تشكيل الحكومة العراقية المقبلة من دون مشكلات. في هذا الوسط، يشدد أصحاب تلك الجهود، في العراق وخارجه، على ضرورة أن يلعب الكرد العراقيون دورا حيويا في تجسير الخلافات بين القوائم الفائزة وتطويق المخاطر المحدقة بالعملية السياسية العراقية، إضافة إلى المساعدة في تقريب وجهات النظر بين القوائم العراقية المتصارعة. في هذا الصدد، كثيرا ما تذكر الأوساط العربية أن المكون الكردي يمثل ثالث المكونات القومية والمذهبية في العراق، وأن دورها أساسي، كبيضة القبان، في حفظ التوازنات بين المكونين الشيعي والسني العربي.

لكن المفارقة أن الكرد الذين لم يترددوا طوال السنوات الثماني الماضية عن أداء هذا الدور في إطار العراق أولا، وفي إطار العمل من أجل تعميق خطوط التفاهم والتلاقي مع العالمين العربي والإسلامي ثانيا، أصبحوا الآن يشعرون بأن اختلال موازين العلاقات بينهم وبين العرب لم يعد يساعدهم في لعب الدور ذاته على الصعيدين العراقي والعربي. فالأوساط العربية، العراقية منها وغير العراقية، لا تني تواصل إنكار المآسي الكردية والقفز على حقيقة عمليات المحق القومي التي تعرض لها الكرد على يد النظام السابق كعملية الأنفال وقصف حلبجة بالأسلحة الكيماوية. والأنكى أن تلك الأوساط كثيرا ما تعتبر أن ضمان الحقوق القومية الكردية في المجتمع العراقي لن يفضي سوى إلى تمزيق العراق وتفكيك دولته والقضاء على طابعه العربي.

في الحقيقة، لم يتردد الزعماء الكرد، وفي مقدمهم رئيس الإقليم الكردستاني العراقي مسعود بارزاني ورئيس جمهورية العراق جلال طالباني، عن استقبال الكثير من الزعماء العراقيين في أربيل والسليمانية بغية استمزاج آرائهم في العملية السياسية العراقية وتعزيز دورها وتخليصها من وضعها المزري الراهن. إلى ذلك لم يتباطأوا في التواصل مع القضايا العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية العادلة. لكن المشكلة أن الأوساط العربية التي تسارع إلى التعاطف والتناغم مع كل مأساة إنسانية خارج عالمها الجغرافي، تلزم جانب الصمت والتجاهل والإنكار في تعاملها مع كل ما يتعلق بالمآسي الإنسانية داخل عالمها كما هي الحالة مع الأكراد والدارفوريين على سبيل المثال.

في هذا المنحى، يرى الكرد أن ممثل رئيس الإقليم الكردستاني رئيس الوزراء السابق نوشيروان بارزاني وضع اليد على الجرح الأعمق في العلاقات العربية الكردية، وذلك في الخطاب الذي ألقاه قبل أيام في مراسم دفن رفات 104 أطفال من ضحايا الأنفال. يشار إلى أن حكومة إقليم كردستان سارعت قبل أسابيع إلى نقل رفات الضحايا من مقابر جماعية في جنوب العراق بغية إعادة دفنها في مواطنها الأصلية في أطراف مدينة تشمت شمال شرقي محافظة كركوك.

واستطرادا، أشار بارزاني في خطابه إلى أن المحكمة الجنائية العراقية العليا اعتبرت عمليات الأنفال والقصف الكيماوي لمدينة حلبجة عام 1988 بمثابة جريمة إبادة بشرية. لكن المنظمات والأحزاب والقوى السياسية والثقافية العراقية لم تأخذ بقرار المحكمة، بل واصلت تجاهله بشتى السبل، مما أصبح يثير في الذاكرة الكردية شكوكا غير قليلة حيال جدية التحالف العربي الكردي، إضافة إلى تعميقه الهوة النفسية والسياسية بين العرب والأكراد في العراق.

هل تعيش العلاقات العربية الكردية مرحلة ترد وتدهور؟ هل يمكن لهذه الحالة أن تضع انعكاسات سلبية على مستقبل العلاقات بين القوميتين في الشرق الأوسط؟ في الرد على أسئلة كهذه لا بد من القول إن التعداد السكاني الكردي في الشرق الأوسط يفوق 30 مليون نسمة يتوزعون على أربع دول أساسية، بينها دولتان عربيتان: العراق وسورية. كذلك لا بد من القول إن تجاهل هذا الكم البشري والقفز على حقوقه وعدم التعاطف مع مآسيه قد يمهد لانفصام مدمر في العلاقات التاريخية بين المكونين، ما قد ينتهي إلى ابتعاد الكرد وتكوينات إثنية وثقافية أخرى عن المشاركة الحقيقية في هموم العرب السياسية والاستراتيجية. لا جدال في أن أحد أهم الهموم العربية في المرحلة الراهنة هو إعادة العراق إلى وحدته وأمنه ومحيطه العربي والإسلامي. معروف أن أمرا استراتيجيا كهذا يصعب تحقيقه من دون شراكة عربية كردية أساسها الفهم الإنساني والوطني المتبادل.

* وزير الثقافة الأسبق في حكومة إقليم كردستان العراق