حكاية المفاوضات غير المباشرة؟!

TT

هناك طريقتان للتعامل مع موافقة إسرائيل، ومن قبلها الجانب الفلسطيني بمباركة من الجامعة العربية، على بدء المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية حول قضايا الوضع النهائي للقضية الفلسطينية: الأولى أن نوضح العقبات والمشكلات التي تقف في وجه نجاح هذه المفاوضات، بل والجبال والهضاب التي عليها عبورها، ومن ثم نستسلم جميعا إلى نوبة مستعذبة من التشاؤم حول الفشل الحتمي الذي هو مسألة متكررة ومعتادة في مسيرة «العملية السلمية». والثانية هي البحث عن الطرق والمسالك والوسائل التي تجعل من هذه المفاوضات قصة نجاح ليس متكررا وليس معتادا في مسيرة القضية الفلسطينية أو ما جرى العرف على تسميته صراع الشرق الأوسط.

الطريقة الأولى سهلة، ولا توجد فيها معضلة من أي نوع، ونقطة البداية هي وصف هذه المفاوضات بأنها «غير مباشرة» أي أنها لا ترقى إلى مرتبة المفاوضات التي عرفتها أطراف دولية عندما يصل بها التنازع إلى درجة يكتشفون فيها أن ثمن الصراع بات أعلى من ثمن حله. وحتى هذه اللحظة فإنه لا يوجد ما يقطع أن الناس في فلسطين أو إسرائيل قد وصلوا إلى هذه النقطة، ومن ثم فإن قبولهم بالمفاوضات يكون إرضاء لأطراف ثالثة هي التي تريد - لمصالحها الخاصة، وربما حتى مصالح الدنيا كلها - أن تجد سبيلا للخروج من نضال تاريخي أرهق الدنيا بلا حل طوال عقود كثيرة ماضية. والطرف الثالث هنا هو الولايات المتحدة والدول الغربية كلها التي باتت - عن حق - تدرك أن استمرار الصراع العربي - الإسرائيلي هو شوكة في حلق علاقاتها مع العالم الإسلامي، وجزء من مأزقها الجاري في العراق وأفغانستان، حيث تبدو الأقدار وقد أوصلت جميع المتصارعين والمتنافسين إلى طرق مسدودة.

ولكن المفاوضات سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة لا تنجح إرضاءً لأطراف ثالثة، وما لم تكن الأطراف المباشرة جاهزة لخطوة أو خطوات على طريق التصالح فإن القوى الأخرى بما فيها العظمى لا تستطيع تقديم شيء أكثر من الاستعداد لبذل جهود مضنية. وعندما تم التوصل إلى ثلاث اتفاقيات للفصل بين القوات في أعوام 1974 و1975 بين إسرائيل من ناحية وكل من مصر وسورية من ناحية أخرى، أو عندما تم الوصل إلى معاهدتين للسلام بين إسرائيل من ناحية ومصر والأردن من ناحية أخرى، لم يكن ذلك نتيجة التفاوض «غير المباشر» من خلال الوسيط هنري كيسنجر في الأولى، أو المباشر في الثانية، وإنما نتيجة استعداد الأطراف الرئيسية للتوصل إلى سلام، ومعه الاستعداد لبذل الثمن الذي تحتاجه هذه الفرصة التاريخية.

واستعداد الأطراف المباشرة قد يأتي نتيجة الإرهاق المادي والمعنوي، والتأكد من أن النصر الكامل مستحيل على الأقل في المدى القريب أو المتوسط، واكتشاف أن المستقبل ربما يحمل فرصا رائعة بالتسوية لحياة أفضل. كما أنه من جانب آخر يتطلب وحدة شعبية داخلية وراء قيادة تكون لديها الشجاعة لاتخاذ قرارات صعبة والسير في تنفيذها دون تردد. وفي الصراعات الكبرى في التاريخ فإن هناك دائما جماعات «متطرفة» تتصور أن التاريخ بجانبها، أو أن الزمن يصاحبها، ولديها قدرات متجددة على إتاحة الفرص أكثر من قدرتها على الوصول إلى أهداف بناءة. وما ينساه المهتمون والمراقبون أحيانا أن هناك وقتا محدودا لاهتمام القوى الكبرى بصراع ما، وفي وقت من الأوقات نسي العالم كله الصراع الداخلي في أفغانستان بعد خروج السوفيات منها، كما تم تجاهل الصراع العربي الإسرائيلي لأنه غير قابل للحل، ولا أحد يتذكر الآن ما الذي يجري في الصومال، وتعلم العالم كله ليس فقط كيف يتجاهل هذه الصراعات، بل عرف أيضا وسائل مبتكرة للتعامل مع آثارها الجانبية بما فيها من إزعاجات.

وهكذا، ولكل هذه الأسباب، فإن هناك ما يكفي للاستسلام لفكرة أن طريق المفاوضات غير المباشرة مسدود؛ ويكفي أن ننظر إلى الجبهة الداخلية الفلسطينية لنجد الانقسام المعروف بين فتح وحماس؛ كما ننظر إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية لنجدها موحدة على أسباب عدوانية وتوسعية، ومنذ وقت طويل لم تحظ إسرائيل بحكومة تتمتع بشعبية وأغلبية برلمانية كتلك التي حظيت بها حكومة نتنياهو وجماعته. وبشكل ما فإنه لا يوجد لدى الطرفين من يشعر بالإرهاق، أو اليأس من تحقيق كامل متطلباته التاريخية، سواء بإقامة دولة إسرائيل الكبرى، أو إقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني؛ وكلاهما تعامل مع صبر العالم من قبل، ولديه وسائل لإفساد المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة سواء بعمليات استيطان مستفزة أو بعمليات عنف تغلق الطريق على كل أنواع السلام.

ومع ذلك فإن الاستسلام للطريق الأول وهو الأكثر سهولة وقدرة على غلق عملية التسوية منذ البداية وإراحة الساسة والدبلوماسيين، يقع بكامله في خانة المصالح الإسرائيلية، حيث لا تملك إسرائيل الأرض فقط، بل ولديها قدرة هائلة على التلاعب بالسكان الفلسطينيين ودفعهم تحت ضغوط وإغراءات شتى للخروج من القدس أولا، ومن بقية الأراضي الفلسطينية ثانيا؛ وهو الأمر الذي يحدث بالفعل على الأرض الآن وتمهد الطريق لخلق «كانتونات» فلسطينية متباعدة يسهل التعامل مع كل واحدة منها على حدة. ورغم أن الخلافات الأميركية الإسرائيلية متصاعدة حول الاستيطان والتسوية، فإن من يراهن على أن يتحول الخلاف إلى تناقض سوف يصل إلى خطأ كبير، خاصة إذا لم يمد أحد يده لباراك أوباما بفرصة ما للنجاح في المنطقة. ويعلم الجميع أن إسرائيل ليست المستفيد الوحيد من بقاء الأمور على حالها، ولكن أيضا قوى راديكالية في المنطقة وداخل الدول العربية تترجم الإخفاق في حل القضية الفلسطينية إلى أجندة سياسية هدفها خلق حالة من الفوضى والثورة داخل الدول العربية تحت شعارات شتى.

المسألة إذن هي أنه سيكون هناك ثمن فادح لفشل المفاوضات ما لم ننظر إلى الطريق الثاني، الذي يقوم على تغيير الإطار الذي تجرى في ظله عملية التفاوض، خاصة من قبل الدول العربية، التي تريد للشعب الفلسطيني أن يحصل على حقوقه المشروعة في بيئة إقليمية مستقرة. وليس ذلك بجديد تماما على المنطقة، فقد استطاعت مصر بثقلها ووزنها أن تفعلها في نهاية السبعينات بعد زيارة السادات للقدس وكانت النتيجة استعادتها لكامل ترابها الوطني. وكان ذلك هو ما فعلته الدول العربية في مرحلة ما بعد حرب تحرير الكويت حينما تغير مناخ المنطقة تماما نتيجة الجهود المصرية والسعودية والسورية إلى الدرجة التي أتاحت للأردن استعادة أراضيه وفتحت الطريق للشعب الفلسطيني لكي يكون له دولة لأول مرة في التاريخ.

ومفتاح الطريق الثاني هو المبادرة العربية التي وافقت عليها جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية وفيها ما يكفي لمشروع ليس فقط لحل الصراع العربي - الإسرائيلي، بل أيضا لإعادة بناء الشرق الأوسط كله. وببساطة فإنه ما لم يعرف غالبية الإسرائيليين مستقبلهم في المنطقة بعد التسوية فإنهم سوف يظلون ملتفين حول قيادتهم الحالية، وما لم يعرف أوباما أن هناك في العالم العربي من هم على استعداد لترجمة أقوال المبادرة إلى أفعال فإن قدرته على مقاومة الضغوط الداخلية سوف تضعف، وهو الرجل الذي لديه قائمة أعمال طويلة لا يستطيع رهنها جميعا لصالح قضية واحدة مهما كانت أهميتها. وإذا كان الجنرال «بترايوس» قائد المنطقة المركزية الأميركية، ومعه عدد من القيادات العسكرية الكبرى ذات الميول الجمهورية يرى أن بقاء الصراع على ما هو عليه مضر بالمصالح الأميركية، فإن تعريف المصالح الأميركية لا يبقى دائما على حاله، خاصة لو كان الفشل هو الحليف المضمون لبعض السياسات.

والخلاصة هي أن فرصة المفاوضات غير المباشرة مثلها مثل كل الفرص في التاريخ هي رهن بمن هم على استعداد لاستغلالها، وقد كان أمام الشعب الفلسطيني والدول العربية وإسرائيل معهم فرص كثيرة، ولكن الفرص ضاعت الواحدة تلو الأخرى ولم يبق من كل ضائعة منها إلا التطرف والعنف والفوضى.