رسالة إلى الرئيسين المالكي وعلاوي .. في جعفر محمد باقر الصدر

TT

تربطني بالعراق صداقات متينة ومعارف تعدَّدت واغتنت عبر ثلاثة عقود من الدرس المتواصل والعمل الميداني، بعضه معلن وجلُّه مستتر، وكله مدعاة فخر واعتزاز لما يعطي أهل العراق لمريديه من أضعاف المحبة المعبَّرة والاهتمام المبذول.

لم يحِن الوقت لتسطير هذه السيرة، وإن نشرتُ كتابين وافيين عن العراق ودراسات كثيرة على مر السنين، إضافة إلى أبحاث مطولة لم تنشر بعد، من أعزها علي بعض المقترحات التي قدمتها السنة الفائتة للجنة مراجعة الدستور عندما دعاني القيّمون عليها إلى مشاركتهم البحث المستقبلي عن العراق في أسمى معانيه، وهو دستوره، وقد بات الشيخ همام الحمودي والدكتور فؤاد معصوم والدكتور سليم الجبوري أصدقاء صدوقين يختزلون في محياهم وخلقهم السامي أفضل المنة العراقية إطلاقا.

هذه الدراسة تنشر قريبا إن شاء الله، وفائدتها ليست في ما تحمله من تجربة شخصية بقدر ما هي توثيق لبطولة العراقيين في خط مستقبل حضاري خالٍ من العنف الذي عاشه جيلان متتاليان من دون هوادة، والعنف لا يزال الطامة الطاغية على أهله حتى اليوم. ولئن ترددتُ كثيرا قبل أن أخطَّ رسالتي هذه، فالتقدم بطرحي الحالي عن كيفية الخروج من الأزمة الراهنة ينبع من محبتي للعراق وإعجابي بأهله وقياداته، ولو كان في الطرح الكثير من الادعاء لمن علم شيئا وغابت عنه أشياء، فكيف المجاهرة بالمعرفة في ديار أبي الطيب المتنبي وأرفع شعر العرب إلى اليوم، ذاك الذي ينطق به أمثال محمد بحر العلوم وجودت القزويني وكأنه نثر. المعذرة إذن لمن يتجرأ على «إهداء الجُمان إلى عُمان، والمقالات إلى بديع الزمان»، على ما تبادله يوما أمير البيان شكيب أرسلان وجدي شبلي الملاط شاعر الأرز.

أما بعد، فالأزمة القائمة في العراق اليوم معضلة تجديد الحكم في ظل دستور طري الشوكة لين الأناة ضعيفها، هي ظاهرة الحضارة القانونية التي تنضج فقط بمر السنين، والتي تعبر عن صحة وعافية لما يرافق الجدلُ كل مسألة، فيخضع النص الدستوري لتأويل مستمر، بعضه وجد طريقه إلى المحاكم، وأغلبه، حتى عندما يأتي المحكمة، يبقى من دون حسم.

المعضلة العراقية الطاغية هي في صعوبة التقاء العراقيين على الحكم بعد الانتخابات النيابية الشجاعة في 7 مارس (آذار) 2010. والمشكلة ليست فقط في الحكومة بمعناها المحصور بمجلس الوزراء ورئيسه، بل في ضرورة انتخاب رئيس مجلس النواب ورئيس الجمهورية أيضا. المناصب كلها في مهب الريح، ويلقي الدستور بعض الضوء على هذا المسار فيثبت سبق انتخاب رئيس المجلس، (المادتان 54 و55 من الدستور)، فرئيس الجمهورية (المادة 70)، ورئيس الوزراء (المادة 77)، ويكتمل مسار المؤسسات في نظامه البرلماني بنيل الحكومة الثقة.

اليوم جميع هذه المسارات معطلة بعدد من المراجعات والطعون المنبثقة من الانتخابات، وكلها تؤخر الاستقرار إلى ما لا نهاية إذا استمر السياسيون العراقيون في خلق العراقيل المختلفة من دون الاهتمام بالجوهر، وهو اكتمال إسناد المناصب الأساسية إلى من يكون مؤتمنا عليها دستوريا، وأهمها منصب رئيس مجلس الوزراء.

وقد تستمر الحالة على ما هي اليوم، بحكومة تسيير أعمال، ورؤساء يفتقدون الشرعية الدستورية، بما يهدد البلاد في صلب مؤسساتها، لأن مصدر الشرعية، وهو مجلس النواب، غير قابل للالتئام بنوابه السابقين. فالعمل الحكومي جله معطل منذ 15 آذار 2010، وهو التاريخ الذي أقرته المحكمة الدستورية العليا نهاية لمدة المجلس النيابي الحالي.

أما المبدأ الأول لمعالجة الأزمة، فقد بات واضحا: على القوى السياسية العراقية أن تتبنى مسارا شاملا يوفر الجواب المكتمل لشغور المناصب الدستورية الثلاثة في آن واحد، لأن المسار المجتزأ لن يفي بالمقام.

ولأن سابقة الانتخابات النيابية عام 2005 أظهرت خلل المواعيد المختلفة في الدستور، وأجهضت قيام الحكومة آنذاك لأكثر من خمسة أشهر تلت الانتخابات، حاولنا مع لجنة مراجعة الدستور التركيز على ابتكار الآلية الموصدة قانونيا، درءا للخلافات المرتقبة في العملية الحالية. لكن النص الدستوري - مهما علا شأنه - غير قادر في جمهورية تجربتها الديمقراطية فتية على تخطي العقبات الناتجة عن حالة سائبة من الأحزاب والائتلافات والتحالفات، ولا بد من تحكيم العقل السياسي على ما هو ممكن وصائب في ظل مثل هذه الحالة - وهي حالة طبيعية، نعيد القول ونكرره، في بلد مثل العراق لا يزال عرضة لأعمال عنف واسعة، وعديد مخلفات الاجتياح السياسية والعسكرية.

الجواب إذن لا يكون دستوريا إلا لماما، لأن الدستور غير ناجز من دون صفاء النيات وثبات التجارب، والنيات كما التجارب ضعيفة متأرجحة، ولن تنجح الآليات الدستورية في تخطي معضلة الحكم، لأن الانتخابات النيابية جاءت نتائجها قاصرة عن إفراز الغلبة العددية الواضحة في المجلس.

تقول الحكمة السياسية إذن إن الجواب الأول في اتفاق شامل، ولن تحرك القوى الأساسية ساكنا لتخطي المعضلة القائمة طالما بقي المسار غير مكتمل في هذه المجموعة الثلاثية.

وإذا كانت الحكومة هي محط الفصل الأخير، فهذا يعني أن منصب رئيس الوزراء هو القاضي حلا للمعضلة، وهذا هو الطرح الثاني، أيضا ضروري لتخطي عقبة الفراغ الدستوري والحكومي القائم. على العراقيين، بقواهم الأساسية المنبثقة من الانتخابات، أن يتفقوا على رئيس حكومتهم، أي على الشخص القادر في النظام البرلماني المقر في الدستور العراقي أن يقدم حكومة تنال الثقة في مجلس النواب، فتسد الفراغ وتعيد عجلة الحكم إلى الشرعية الدستورية فالاستقرار.

هنا الموضوع سياسي بحت، لأن الانتخابات أفرزت مجموعات سياسية لا تقدر أي منها الوصول وحدها إلى السلطة التنفيذية. التحالف في النظام البرلماني متعدد المجموعات النيابية قاض، وهو أصعب في بلد حريته قريبة وأمنه ضعيف كما هو العراق اليوم.

أما المباحثات في الرئاسات الثلاث، فهي كما هو معروف رهن حجم المجموعات المنبثقة من الانتخابات، على خلفية أغلبية 163 نائبا في المجلس المؤلف من 325 نائبا حسب القانون الذي رعى الاقتراع. المجموعات المؤثرة أربع، جاءت في مقدمتها القائمة العراقية بصدارة رئيس مجلس الوزراء الأسبق الدكتور أياد العلاوي (91 مقعدا)، يتبعه ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس مجلس الوزراء الحالي الأستاذ نوري المالكي (89 مقعدا)، فالائتلاف الوطني بصدارة رئيس الوزراء السابق الدكتور إبراهيم الجعفري (70 مقعدا)، والائتلاف الكردي برئاسة التحالف الكردستاني (الضامّ رئيس الجمهورية الحالي الأستاذ جلال طالباني ورئيس إقليم كردستان الأستاذ مسعود بارزاني) ومجموع نوابه ثلاثة وأربعون.

المعادلات الرياضية واضحة. فإما تتفق القائمتان الأوليان على تقاسم للسلطة في ما بينهما (مع أو دون القوائم الأخرى أكانت مكتملة أو مجتزئة)، وإما تتحالف إحداهما مع القائمتين الثالثة والرابعة لتحصل معها على الأغلبية الضرورية في المجلس. هذا الاتجاه الأخير بادرنا به التحالف المعلن بين قائمتي دولة القانون وقائمة الائتلاف، لكنه لن يكون حاسما وحده لتخطي العقبات الهيكلية المرافقة لأزمة الحكم الراهنة.

المعضلة في جميع الأحوال تتمثل بتنافس رؤساء مجلس الوزراء المتتالين على المركز في العراق الجديد، لا يرضى أي منهم التخلي عما يعتبره - على قدر كبير من الرجاحة - حقا له قبل غيره. وما دامت هذه القناعة راسخة لديهم، ولا سيما لدى الرئيسين العلاوي والمالكي، فلا مجال للانفراج، وقد تطول الأزمة إلى ما لا نهاية، والدستور غير قادر على توفير الحل قسرا.

الحل الوحيد هو تنازل أحدهما عن الرئاسة، فوحده الترفع يضع حدا للمأزق الحالي.

في البحث عن مثل هذا الحل عناصر نفسية من الصعب الإحاطة بها، يضاف إلى عسير تقديرها غياب الآلية الوافية داخل التحالفات وخارجها لكسر الجمود الراهن.

غير أن استمرار الجمود آفة قاتلة للمواطن العراقي، الذي ضحى مرارا وتكرارا ليثبت المبدأ الديمقراطي في أجواء أمنية قلما أرهقت شعبا في المعمورة كما أرهقته في العراق على امتداد عقود خمسة من الاضطرابات والحروب المتتالية.

في غياب الآلية الدستورية القاضية، قد يبدأ التفكك داخل التحالفات، ومثل هذا التضعضع له سوابق عديدة، لا سيما في الائتلاف الوطني الذي رأى تآكلا عميقا في بنيانه في المجلس العراقي الأول.

مثل هذا التفكك لا يبشر بالخير للبلاد لما يحمل من ضغائن وحزازات شخصية وجماعية هي بالغنى عنه، ولذا من المستحسن أن تبحث القيادة العراقية الجديدة عن شخص جامع لرئاسة مجلس الوزراء، يُتَّفق معه، وبعد التئام أغلبية النواب حوله، على الرئيسين الآخرين ونوابهما، فالحكومة التي سوف يقدمها رئيس الوزارء للمجلس لنيل الثقة.

لن تفيد الطعون الهامشية المقدمة هنا أو هناك في المقام، لأن الصدارة التي قد يؤدي إليها افتراضا حصول ائتلاف دولة القانون على المجموعة الأوسع في المجلس، هذه الصدارة لن تكون كافية لتثبيت الأغلبية في المجلس على عمومه. لا يبقى إذن إلا الاتفاق على شخص رئيس مجلس الوزراء الذي يمكن الالتئام حوله لإطلاق العجلة الدستورية الموقفة.

في مواكبة العمل على الحرية في العراق، اكتشفت أشخاصا كثيرين، رجالا ونساء، أهلا للقيادة، والعراق لم يبخل بتضحيات قل مثيلها في تاريخ الأمم الحديث. وفي ظل قناعتي بجدارة الكثير من العراقيين على تحمل المسؤولية، رأيت مفيدا أن أدلو بدلو المراقب المتواضع، اللاهف على تجربة العراق الفريدة، وأن أقدم قناعة رددتها في محافل مختلفة في الأسابيع الماضية، ولا سيما عند الأصدقاء العراقيين في الصدارة السياسية، وهي أن غياب آلية الفصل في ظل مجلس رباعي القوى يفرض الاتفاق على شخص رئيس مجلس الوزراء من خارج المتداول المعهود.

وعندي أن أفضل الأشخاص وأكثرهم أهلا لرأب الفراغ الدستوري المستفحل في بلاد الرافدين هو النائب جعفر محمد باقر الصدر.

هو أمرٌ لافت أن يتصدى ابن محمد باقر الصدر للسياسة، وهو لا يحتاجها لما تلتئم الساحة العراقية طبيعيا حول مكنوز إرثه وطلته العلوية. والدي، رحمه الله، كان يردد «إن النجيب لا ينجب، وإن نجب فاق أباه». لا أدري حقيقة هل من الممكن لابن نابغة بمستوى محمد باقر الصدر أن يفوق أباه، لكنني التفتُّ باهتمام إلى تصدي السيد جعفر إلى النيابة، وقد سطع نجمه برويّة قل مثيلها عندما أطل بشوشا متواضعا مجددا على الساحة العراقية بمقابلات تلفزيونية شدت العراقيين إليه، واتخذ مواقف سياسية تحكمها الإنسانية، لا سيما في تململه من إساءة استعمال القانون لإقصاء صالح المطلك وزملائه عن النيابة. إذن هي دعوة خاصة لكل من الرئيسين المالكي والعلاوي: لقد أفرز صندوق الانتخاب في العراق حالة مغلقة سياسيا لا تسمح بالوصول إلى صدارة المركز الذي هو حق مستحق لهما. فإذا كانت قراءتي صحيحة، فلا بد من كسر الجمود بترفعهما عن المنصب الأول، واحتضان جعفر الصدر رئيسا للوزراء، ليرتقي سياسيو العراق، وهما في المقدمة، إلى أسمى معاني السياسة، ألا وهو التضحية الشخصية من أجل الوطن.

* شبلي ملاط محام لبناني وبروفسور رئاسي في القانون في جامعة يوتا بالولايات المتحدة، وأستاذ كرسي جان موني للمجموعة الأوروبية في بيروت، من كتبه «تجديد الفقه الإسلامي: محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم»، عن دار كمبريدج ودار النهار، و«دليل الدستور العراقي» نشر في بغداد مؤخرا، و«مدخل إلى قانون الشرق الأوسطIntroduction to Middle Eastern law» عن دار أكسفورد، و«Iraq: Guide to Law and Policy»، صدر هذا العام عن دار أسبن.