رؤية خادم الحرمين الشريفين لدحض الإرهاب الأسود

TT

لم يكن وليد الصدفة أن يكون النجاح حليفا للأمن السعودي في حربه الجبارة لدحض ومواجهة مخططات الإرهاب والتطرف التي يقف وراءها تنظيم القاعدة. فحرب السعودية ضد الإرهاب وقواه العمياء لم ولن تتوقف، ويكتب للأمن السعودي نجاحاته المتكررة في إحباط معظم عمليات «القاعدة»، كنتيجة حتمية ليقظة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وأخذها على محمل الجد نواياه وتهديداته بتدمير البنية التحتية في المملكة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي بهدف تخريب اقتصادات السعودية والخليج القوية، التي تعد محور ارتكاز لاقتصادات العالم. ولم يغفل الأمن السعودي ولو للحظة عن عناصر هذا التنظيم الإرهابي الذي يجند عناصره سواء من أبناء بلداننا الخليجية أو المقيمين فيها، لتنتظر الإشارة لتنفيذ تلك المخططات الإرهابية.

وقد يجرنا الحديث عن إعلان الأمن السعودي اعتقاله فوق المائة إرهابي ثبتت انتماءاتهم لتنظيم القاعدة باليمن، ثم إحباطه لعمليات عديدة كان التنظيم ينوي شنها ضد المصالح السعودية، خصوصا المنشآت النفطية خلال الفترة الماضية، إلى أن نعرج قليلا على اليمن السعيد الذي خرج لتوه من حرب كادت تدمر مستقبله. فاليمن، وعلى لسان الرئيس علي عبد الله صالح، صنف «القاعدة» كتحد رئيسي من بين تحديات أربعة تمثلت في هذا التنظيم الإرهابي، كما ذكرنا، ثم الحوثيين، ودعاة الانفصال في الجنوب، وأخيرا التحدي التنموي الاقتصادي.

ربما لا يجد تنظيم «القاعدة» ما يخربه في اليمن، الذي يسعى جاهدا لاجتياز محن اقتصادية عديدة، ولكنه وضع السعودية نصب عينيه، وتحديدا المصافي النفطية وكل ما يرتبط بالنفط، بهدف زعزعة استقرار المملكة التي تضم الكعبة الشريفة قبلة المسلمين والمسجد النبوي الشريف.

واستقراء متأن لبيان الأمن السعودي، نستطيع الخروج منه بدروس عديدة، لعل من أهمها:

اعتماد تنظيم «القاعدة» سياسة تهريب الأسلحة إلى الأراضي السعودية عبر الحدود مع اليمن ثم دفنها في مناطق صحراوية ومنازل مهجورة، مستغلا في هذا مساحة الحدود الشاسعة بين البلدين، ثم أخيرا انشغال الأمن السعودي في تأمين مناطق الحدود التي حاول المتمردون الحوثيون التسلل منها للسعودية.

تجنيد أجانب مقيمين في السعودية والتغرير بهم لتنفيذ هجماتهم الإرهابية واستهداف منشآت نفطية، بالتزامن مع محاربة الحوثيين. وقد استفاد التنظيم في تحقيق هدفه هذا من عناصر داخل السعودية سواء دخلوا تحت ستار العمل أو لأداء مناسك العمرة والحج.

إدراك تنظيم القاعدة لحقيقة غاية في الأهمية تتمثل في يقظة الأمن السعودي في الإعداد والتأهيل واستباق الهجمات الإرهابية بشن عمليات وقائية ضد عناصر «القاعدة».. وساعد على هذا أيضا زيادة وعي الشباب السعودي بمخاطر الانخراط في «القاعدة» بسبب ارتفاع وعيه الديني والفكري، مما أثر على عمليات تجنيد شباب سعودي ينساق وراء فكر وأنشطة الفئة الضالة، مما جعله يفكر في تجنيد عناصر غير سعودية.

وبالتوازي مع هذا الاستقراء.. ربما نشير للدلالة على ضخامة المهمة الملقاة على الأمن السعودي، إلى أن مجرد التخلص من قيادي واحد في تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، قد كلف قوات عراقية - أميركية مشتركة شن عمليات أمنية مكثفة وتنسيقا وتجهيزات قبل تطويقها المكان الذي يختبئ فيه وقتله.

فما بالنا ونحن نتحدث عن نجاح الأمن السعودي في إحباط عمليات إرهابية عديدة واعتقال المئات قبل تنفيذهم عملياتهم البشعة. فهذا لم يكن من قبيل الصدفة كما أسلفنا في البداية، خاصة إذا علمنا أن المؤسسات الأمنية العالمية تستند الآن إلى مخططات الأمن السعودي في مواجهة الإرهاب وشروره.. بيد أنني أعتقد أن من ضروريات الاستعداد الأمني لإجهاض خطط الإرهابيين، أن يستمر التعاون بين الأمن وعلماء الإسلام، وأن تتواصل جهود أئمة المسلمين لمواجهة التطرف والإرهاب، وذلك بتنوير الشباب بأصول الدين الإسلامي الحنيف والتمسك بالدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في مجالات الحياة والدفاع عن قيم الإسلام وأخلاقه وآدابه.. مع ضرورة العلم بأن ملف الإرهاب والتكفير والتطرف ليس ملفا عارضا، يستخرجه الأئمة والمفتون والعلماء والأجهزة الأمنية وقت الحاجة إليه، ثم يعود إلى أدراج مغلقة بعد زوال السبب. وهنا مكمن الخطر، لأن الأمن وحده مهما اجتهد في مكافحة الإرهاب لن ينجح في بلوغ مقاصده النبيلة بدون علماء الدين وأئمته الأفاضل.

من يرصد خطابات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، يلحظ بسهولة بالغة حرص عاهل السعودية على أن يضع كل مواطن أمام مسؤولياته الأمنية، وأن يعي أن الإرهاب آفة مدمرة على الأوطان والشعوب والحياة عموما، وذلك بسبب ما عانت منه المملكة كثيرا، ولا تزال تتعرض لفتن الفئة الضالة صاحبة الأفكار المتطرفة البعيدة كل البعد عن سماحة الإسلام.. وقد صك خادم الحرمين الشريفين تعريفا جديدا للإرهاب وهو «الإرهاب الأجير» الذي يعمل لتحقيق مصالح دول أو جماعات تريد النيل من أمن الوطن ومكتسباته وتهديد أمنه، وإعاقة مشروعاته التنموية، وإزهاق أرواح أبنائه، وترويع الآمنين فيه.

ولكم شدد الملك عبد الله على مهمتين أساسيتين تتعلقان بقضية مكافحة الإرهاب، وهما:

المهمة الأمنية: وتضم السياسات والإجراءات الكفيلة بحفظ الأجواء من المنغصات الأمنية المختلفة، وكيف واصلت المملكة السعودية جهودها لترسيخ الأمن، لإفشال كل المخططات الإرهابية واستئصال هذه الفئة المنحرفة، وتجفيف منابع الإرهاب.

المهمة الدينية: وهي من ثوابت المملكة، مع مواصلة تبني مشروع خطاب إسلامي يقوم على الحوار والتسامح وتقريب وجهات النظر وإزالة سوء الفهم ونبذ مظاهر الخلاف والعداء والكراهية بين أتباع الأديان والثقافات المختلفة.

واتساقا مع رؤية خادم الحرمين الشريفين، وخاصة الدينية، لمحاربة الإرهاب وقطع دابره، ومواجهة أفكار الجماعات الضالة والفئة المنحرفة التخريبية، فقد وجهت المملكة إلى اعتماد المؤسسات التعليمية والدينية منهج الوسطية الإسلامية والتركيز على وسطية التشريع الإسلامي وتكريس مبدأي الاعتدال والتسامح.. وذلك من أجل تفنيد الفكر الإرهابي الذي يقوم على أساس تكفير الحكام واستباحة الخروج عليهم وقتالهم، وشبهة تغيير المنكر باليد وبالسلاح.

وكان لزاما لتحقيق هذه الرؤية، مراجعة أسس الخطاب الديني خلال الفترة الماضية، الذي أباح انتشار العنف والتطرف، المؤسسين على عاطفة دينية وليس على رؤية دينية تعمل على تفعيل العقل وليس المشاعر الشخصية، وكذلك اعتماد الكتاب والسنة في الدعوة، وليس التأويل والفتوى في غير محلها. خاصة إذا علمنا أن من الأسباب الرئيسية لانتشار الفكر المتطرف والتنظيمات المسلحة، ما يعود للجهل بالكتاب والسنة وإهمال مقاصد الشريعة.. إضافة إلى الطعن في كبار العلماء الحكماء، والتطاول على الفقهاء النبلاء، والأخذ عن مرجعية غير موثقة، واستناد الإرهاب على التكفير المطلق للغير من دون ضوابط. ومعروف سلفا أن من مخاطر الجهل بأحكام الدين والفتاوى الضالة الصادرة عن الهوى والضلال والتأويل الفاسد لآيات القرآن وأحاديث السنة النبوية، خدمة الأهواء والأغراض الشخصية، ومن ثم تعد سببا رئيسيا في تفشي الغلو والتطرف. وهذا يتطلب نهوض العلماء بالبيان، وتوجيه الشباب، والتزام الرفق والوسط، ومجافاة الغلو والشطط، وضرورة حصر الفتوى في الأكفاء، وفتح باب الحوار، كوسائل علاجية لظاهرة الإرهاب. وعلي الخطاب الديني المأمول إقناع شباب المتطرفين والخلايا النائمة بضرورة الاعتراف بثقافة الحوار وترسيخها وتكريس قيم التفاهم وروح التسامح وإغلاق أبوب التآمر على الإسلام.. وإقناعهم أيضا بمخاطر الغلو في تكريس ظاهرة أو مبدأ تغيير المنكرات باليد أو اللسان أو السلاح، من دون مراعاة للضوابط الشرعية، وهذا من مفاسد الفوضى الدائرة في الفتاوى الشرعية التي باتت حالة عامة في المجتمعات الإسلامية.

إجمالا.. يتعين أن نعود إلى دراسة وبحث البدايات الأولى للفكر التكفيري الذي يقود بدوره إلى الإرهاب، للوقوف على أسباب التطرف والعنف ومعرفة العلاقة الوثيقة بين الإرهاب والجريمة المنظمة. وعلينا استبعاد فكرة أن الأسباب معروفة، فلكل زمن شبابه ومتطرفوه، ومتطرفو الأمس غير متطرفي اليوم، ولذلك أدعو إلى مراجعة متواصلة للأفكار الضالة وربطها بزمن وتوقيت البحث.

* كاتب ومحلل سياسي بحريني