انفجار أزمة «إخوان» الأردن والانقسام بات استحقاقا لا مفر منه

TT

أخفقت كل محاولات التضميد والمعالجة وانفجرت أزمة الإخوان المسلمين في الأردن يوم الجمعة الماضي عندما انفض اجتماع حزب العمل الإسلامي، الذي هو الوجه الآخر لهذه الجماعة التي طالما تغنت بتماسكها ووحدتها وبالقدرة على تآخي الاختلافات في وجهات النظر داخلها، دون أن يختار أمينا عاما جديدا له يستطيع لملمة الحركة الإسلامية التي يبدو أن «فيروس» التشظي، الذي قضى على أحزاب وتنظيمات الحركة القومية وعلى أحزاب وتنظيمات التيار اليساري وفي مقدمته الحزب الشيوعي، بات ينخر جسدها وغدت مسألة بقائها موحدة مسألة وقت فقط.

كان اجتماع يوم الجمعة الماضي محصلة جهود مضنية بذلها المرشد العام لتنظيم الإخوان المسلمين وبذلها حكماء هذه الجماعة وعقلاؤهم وكان المفترض أن ينتهي الصراع المحتدم بين ما يسمى جناح الصقور وما يسمى جناح الحمائم أو على الأقل أن تكون هناك هدنة لمواجهة استحقاق الانتخابات النيابية (البرلمانية) التي بات في حكم المؤكد أنها ستجري في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي تنظر جميع القوى السياسية إليها على أنها ستكون حاسمة وفاصلة وبداية مرحلة جديدة في العمل السياسي الأردني.

ولعل ما تجدر الإشارة إليه، ونحن بصدد التطرق إلى هذه المسألة التي تعتبر بالنسبة للأردن في غاية الأهمية، هو أن أزمة الإخوان المسلمين التي بقيت تعسعس كجمرة متقدة تحت الرماد منذ نهايات القرن الماضي قد بدأت بخلاف بين تيار «الصقور» وتيار «الحمائم» حول طبيعة العلاقة التنظيمية بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي بقيت تابعة لـ«الإخوان» الأردنيين إلى أن تضخم حجمها وتعاظمت قوتها في الساحة الفلسطينية وبخاصة بعد أن أصبحت رقما أساسيا في المعادلة الإيرانية في هذه المنطقة وغدت مثلها مثل حزب الله اللبناني رأس جسر لتطلعات إيران الإمبراطورية في الشرق الأوسط كله.

لقد رأى تيار «الحمائم»، انطلاقا من أن المفترض أن الإخوان المسلمين هم جماعة دعوية تسعى لتحقيق أهدافها بالوسائل السلمية وأن حماس حركة مقاومة تسعى للوصول إلى تحرير فلسطين بالسلاح والرصاص والوسائل العسكرية، أنه لم يعد ممكنا الجمع بين هذين التنظيمين في إطار واحد وأنه لا ضرورة للإبقاء على التنسيق السياسي بينهما وذلك مع الاستمرار بدعم حركة المقاومة الإسلامية بكل وسائل الدعم، لكن تيار «الصقور» بقي متمسكا بالصيغة السابقة وبتمثيل مكاتب الخليج التابعة لـ«الإخوان» التي غالبية أعضائها، إن لم يكن كلهم، من الأعضاء القياديين في هذه الحركة في مجلس شورى «الجماعة»، فتعاظم هذا الخلاف الذي له أسباب أخرى غير هذا السبب رغم الوساطات المتلاحقة ورغم تدخل المرشد العام الذي بالإضافة إلى قيادته لـ«إخوان» مصر هو قائد التنظيم العالمي لهذه الجماعة الإسلامية.

إن هذا هو أحد الأسباب الرئيسية لهذا الخلاف الذي ظاهره تنظيمي وباطنه سياسي يتعلق بتداخلات الساحة الأردنية والساحة الفلسطينية حيث رفض جناح «الصقور» قرار فك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية الذي كان العاهل الأردني الراحل الملك حسين قد اتخذه في عام 1988 بضغط عربي وباستجابة لرغبة منظمة التحرير الفلسطينية وبقي يرفضه حتى الآن وهو موقف اعتبره جناح «الحمائم» على أنه يستهدف الكيان الأردني ككيان وأنه بالمحصلة يخدم مؤامرة الوطن البديل التي يسعى اليمين الإسرائيلي المتطرف لتمريرها ليتخلص من استحقاق قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب الدولة الإسرائيلية.

ثم وبالإضافة إلى هذين السببين الحساسين فإن تيار «الحمائم» بقي يسعى، ومنذ أن بدأ هذا الخلاف المستحكم الذي وصل يوم الجمعة الماضي إلى ذروة التفجّر، إلى التخلص من وصاية «الجماعة» أي جماعة الإخوان المسلمين، على حزب جبهة العمل الإسلامي واختيار أمينه العام من قبل مجلس شورى هذه الجماعة، وعلى غرار ما حدث مؤخرا عندما استبق مجلس الشورى اجتماع الجمعة الماضي بتعيين زكي بني أرشيد الذي هو أكثر رموز جناح الصقور تطرفا أمينا عاما لهذا الحزب خلافا لرغبة معظم قياداته وأعضائه.

وحقيقة ورغم أن هذه الحقيقة مرة وقولها أكثر مرارة أن السبب الحقيقي لهذا الخلاف، الذي تفجر داخل جماعة الإخوان المسلمين والذي قد يؤدي إلى انشقاق على غرار انشقاق بدايات خمسينات القرن الماضي الذي أسفر عن ظهور حزب التحرير الإسلامي المتطرف بقيادة الشيخ تقي الدين النبهاني، هو أن تيار «الحمائم» قد انحاز إلى وجهة نظر الدولة الأردنية بالنسبة لمشكلتها مع حركة حماس وإبعاد قادتها عن الأراضي الأردنية في عام 1999، بينما انحاز التيار الآخر الذي هو تيار «الصقور» إلى وجهة نظر حركة المقاومة الإسلامية، وهنا فإنه يمكن القول إن لهذين الانحيازين جوانب تتعلق ببروز هوة وإن هي اقتصرت على كبار المسيسين الساعين لمواقع قيادية بين ما يسمى بـ«الليكود» الفلسطيني و«الليكود» الأردني على ساحة العمل السياسي والإعلامي الأردنية.

والمهم فإن ما فجر هذا الخلاف الذي ازداد تأججا واحتداما، في أعقاب اجتماع يوم الجمعة الماضي الفاشل حيث شعر تيار «الحمائم» بأنه تعرض لطعنة غدر في الخاصرة عندما لجأ تيار «الصقور» إلى مناورة تنظيمية بإبعاد ممثلي التيار الآخر عن هذا الاجتماع واختار صقريا متطرفا آخر هو علي أبو السكر رئيسا لمجلس شورى حزب الجبهة الإسلامية بالإضافة إلى تعيين زكي بني أرشيد المشار إليه آنفا أمينا عاما لهذا الحزب.

وبهذا، وهذا هو رأي كل الرموز القيادية في تيار «الحمائم»، فقد استكمل تيار «الصقور» سيطرته على «الجماعة» وعلى «الحزب» بعد أن كان قد جرى تكريس الدكتور همام سعيد مراقبا عاما لهذه الجماعة، وبعد أن أصبح علي أبو السكر رئيسا لمجلس شورى هذا الحزب، أي حزب جبهة العمل الإسلامي، وأصبح زكي بني أرشيد أمينا عاما له، وجميع هؤلاء الثلاثة هم الأكثر تمسكا ببقاء العلاقة التنظيمية والسياسية مع حركة حماس والأكثر عداء للأردن وللدولة الأردنية والأكثر تأييدا لإيران والأكثر مراهنة على ما يسمى «فسطاط الممانعة والمقاومة» الذي يضم بعض الدول العربية وحزب الله اللبناني وفصائل المعارضة الفلسطينية.

والمشكلة التي لم يدركها الإخوان المسلمين بجناحيهم المتصارعين، تيار «الصقور» وتيار «الحمائم»، هي أن مصير كل الأحزاب القومية واليسارية العربية، وبعضها لا يزال في الحكم، قد انتهى إلى كل هذا الانقسام والتشرذم، وأن هناك أسبابا ذاتية وموضوعية غدت الحركة الإسلامية تعيشها هي التي أدت إلى هذه النهاية التي انتهت إليها كل فصائل الحركة القومية واليسارية.

كان حزب البعث في سنوات خمسينات وستينات القرن الماضي أقوى وأهم وأكثر انتشارا على صعيد العالم العربي كله من جماعة الإخوان المسلمين، وهذا ينطبق وإن بحدود أقل على حركة القوميين العرب المتحالفة مع عبد الناصر وعلى الحزب الشيوعي المرتبط بموسكو التي كانت وقتها تعتبر بمثابة الشيوعية العالمية، لكن ورغم ذلك فقد انتهى هذا الحزب، أي حزب البعث، وانتهت الأحزاب الأخرى القومية واليسارية عندما لم تعد شعاراتها الصاخبة والمدوية والبراقة تستهوي الفئات الاجتماعية الصاعدة كما كانت تستهوي أجيال خمسينات وستينات القرن الماضي.

لقد اختفت أجيال خمسينات وستينات القرن الماضي، وفقا للنظرية التاريخية الخالدة القائلة: «إن الناظر إلى النهر يعتقد أن مياهه ثابتة لا تتغير وذلك مع أنها تتغير في كل لحظة»، وحلت محلها أجيال أكثر واقعية ومفاهيمها مختلفة وكذلك قناعاتها وتهمها البرامج أكثر بكثير مما تهمها الشعارات التي كانت بضاعة رائجة لأكثر من خمسين سنة ماضية، وهذا للأسف لم تدركه الحركة الإسلامية وعمودها الفقري، الإخوان المسلمين، التي رغم كل هذه التحولات والتغيرات الجذرية على صعيد العالم، والعالم العربي، لا تزال تخيط بالمسلة البالية السابقة ذاتها، ولذلك فإن «فيروس» التشظي والانقسام الذي اقترب من قلبها سيجعل مصيرها حتما هو مصير الحركة القومية واليسارية العربية وكل هذا حتى وإن هي بقيت تصر على أنها رقم لا يقبل القسمة.