الوجه الجديد للمملكة العربية السعودية

TT

وجه جديد يتمظهر بتؤدة ولكن بثبات في المملكة العربية السعودية. ملامح التغيير التي تبدو في الأفق كانت الفكرة المهيمنة خلال منتدى فرص الأعمال الأميركي - السعودي في شيكاغو الأسبوع الماضي.

على امتداد 16 عاما من نشأتي في المملكة العربية السعودية، وفي مدينة الخبر الوادعة بالذات حيث كان والدي يدير عمليات شركة «بان أميركان» في منطقة الخليج، استمتعنا بطفولة هادئة على وفرة وكفاية خلال الطفرة النفطية الأولى. لكن عندما بدأت الثورة في إيران، وبعد أن قاربت الحرب الباردة تصعيدها الأجوف، أتت مقوّمات حياتنا من تلك المدينة الصحراوية الصغيرة، وكذلك من خلال كتبنا المدرسية الأميركية وثقافة الـpop، حيث يمكن أن يقيم الجَمال، وحيث يتوقع من النساء الانطلاق في تطبيق ما تعلمنه، بل والإضافة على ما حصّلنه من معرفة. في ذلك الوقت، كنت أدرك أني سأترك السعودية يوما، لكن لم يدر في خلدي أني سأعود إليها مرارا، عبر أسفار قمت بها شخصيا كأستاذة جامعية، ومصرفية واقتصادية.

منتدى شيكاغو قدّم للعالم لمحة عن الإطلالة الجديدة للمملكة العربية السعودية. وأعتقد جازمة أن هناك المزيد مما سوف نرى على النحو الذي ورد خلال هذا المنتدى في الكثير من المجالات. فالمفهوم الذي تم تداوله، «الاستثمار في الإنسان»، توالى عبر جدول الأعمال. وأوحت كافة الدلائل أن قواعد السياسة السعودية تمحورت على الأولويات بدقة كبيرة، بينها أهمية التدريب وتطوير القوى العاملة التي برزت بوضوح وبطرق متعددة. وما خلا ذلك مما لا يخلو من محاذير، تتم انطلاقات تنفيذه بالتأكيد. بل هناك قفزة هادئة إلى الأمام تجري حاليا في مجال التعليم، تعززها ميزانيات غير مسبوقة، وأطر زمنية قياسية، ونطاقات متشاسعة لم يسبق لها مثيل من الإعداد في المملكة العربية السعودية اليوم، بل ربما قبلا في دول العالم الناشئة، مما يعود بالذاكرة لنشوء أميركا وارتقائها في القرن التاسع عشر الذي يشبه إلى حد بعيد ورشة البناء هذه. وحتى خلال فترات الركود والعجز المالي، استمر تزايد الميزانية التعليمية السعودية، مما لا يدع مجالا للشك في ذلك.

بوادر هذه الإرهاصات قدمتها باقتدار وبلاغة صاحبة السمو الأميرة لولوة الفيصل التي أثرى تشريفها المؤتمر في أكثر من مجال. وجاء استعراضها وتقييمها بالأرقام لخطوات بلادها الحالية في مجال التعليم حجة في الإقناع. كما كان اختلاطها، ومشاركتها في جلسات الاستماع للآخرين من الأهمية بمكان؛ وقد أضفت على المؤتمر زخما متجددا في موضوع مراعاة المنظور الجنساني. وكان مدعاة لارتياحي غياب نقاش معلن حول «دور المرأه» فيما تحوّل تبادل الحوارات «عن المرأة» إلى جلسات نسائية أدلت خلالها سيّدات أخريات بصدق وحسن نية عما يعرفنه بالفعل، وجميع التوجهات تهدف لإدامة التجزئة النسبية في كثير من القطاعات الاقتصادية. لم يعرَض لموضوع الجنسين في شيكاغو، لكن الأحاديث عنه كانت مدوّية عبر أصوات السيدات السعوديات الكفؤات بين كافة المحاورين، حيث تبودلت الخبرات والآراء في التجارة والتعليم والمال والمجالات التي لا تستهدف الربح. وكانت لما السليمان، وخلود الدخيل، وأفنان الشعيبي أصدق الأمثلة على الوجود النسائي.

في الجلسة النهائية، ختم مستشار خادم الحرمين الشريفين الدكتور عبد الرحمن السعيد، مستعرضا مواضيع شائكة تم طرحها بطواعية، فيما وصل المؤتمر إلى خاتمة هادئة ومريحة. لقد أعطانا توصيفا عن إعادة تأهيل عناصر متطرفة من المجتمع السعودي، وعن النظام القضائي الذي يتلقى حاليا لمساته الأخيرة، فيما كان الموضوع الأساسي والمباشر هو الشأن الاقتصادي.

وجاءت توجهات المشاركين متشابهة بشكل عفوي. وجذبت جولة هذه السنة إلى المؤتمر أكثر من 3 أضعاف عدد المشاركين في مؤتمر العام الماضي في واشنطن العاصمة حول السياسة وشؤونها، على الرغم من هالة أوباما المعتَبرة في أوائل عام 2009. السعوديون يؤدون خدمة جليلة لمنطقة الشرق الأوسط من حيث الرجوع بها لما كان مثمرا في سنوات ما قبل النفط وما نتج عنه من سياسات: تلكم كانت مجالات التجارة. في شيكاغو، التقى الناس حول اجتراح الصفقات وتبادل البطاقات الشخصية. الحكومة والقطاع الخاص كانا موجودين على مستويات التمثيل العليا، مع البيوتات التجارية الرئيسية في المملكة ممثلة بمؤسسيها أو كبار مسؤوليها. فلا ريب في أن تصبح المملكة العربية السعودية مركز الثقل للأعمال التجارية في الخليج، التي تسير قدما مع الأنشطة الخارجية الإيجابية لسائر الدول العربية، وذلك للفترة المتبقية من هذا العقد.

ولم يكن بوسع وزير التجارة والصناعة، الحريص على إطلاق «التحديث العملاتي» على فعاليات المؤتمر، سوى التجاوب المناسب أمام حضور سبق أن استمع لوزير التجارة الأميركي يناقش أيضا أهمية إيجاد فرص العمل لكلا البلدين. وكان هناك تقارب مريح من الأهداف والتوقعات وأنماط الرؤية والتقصّي بين اثنين من المسؤولين ودولتيهما بعد سنوات من التباعد المأساوي، أو التلازم اللا مستقر في أحسن الأحوال. هذا العام مسّت الحاجة إلى التعزيز المتبادل والاستثمار المشترك عبر المحادثات المثمرة، وأجمع المخططون في الواقع على تعميق الانفتاح والكلمة السواء في هذا المؤتمر، لا سيما من الجانب السعودي بشخص وزير البترول والثروة المعدنية، والذي كان متشاسعا في استشرافه.

حتى إن وزير الدفاع الأميركي السابق وليام كوهين عبّر أيضا عن رؤية متجددة. ففي ختام توجيهه للحلقة المالية اختار الولوج في بعض المعطيات السياسية. ووصف كيف كانت الولايات المتحدة بصدد «الانغلاق» في الوقت الذي كانت فيه السعودية تنهج نحو «الانفتاح». ونعرف اليوم أن الولايات المتحدة ستكون دائما من بين المجتمعات الأكثر انفتاحا بين المجموعة البشرية. كما نعلم أيضا أن السعودية تسعى نحو التصميم والبناء بنفس الحماس المتسارع. لكن كوهين أكد مقاربة واضحة ومريحة: نافذة من الفرص المتعددة، بعضها أقل هشاشة وأيسر تحقيقا من غيرها. وعليه، فالمؤتمر الذي كان يمكن أن يتّسم بمعاناة فوارق التوقيت وبعد يومين ونصف اليوم من البحوث المكثفة، انتهى بنتائج عالية وإجماع هادف على منظومة واعدة من الشؤون المستقبلية.

* المؤسِسة والرئيسة التنفيذية لـ«المؤشر العربي» وأستاذة الاقتصاد والأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت