انتبهوا يا أولي الألباب

TT

مطار جنيف في سويسرا يغلق أبوابه ومدرجاته كل يوم، ولا يستقبل بعد الساعة العاشرة مساء أي طائرة، وذلك احتراما لمشاعر سكان المنازل القاطنين بجانب المطار، ولتوفير الهدوء اللازم لهم، حيث إن ذلك يعتبر من أهم حقوقهم الحياتية.

فالعالم بالفعل أصبح مزعجا، فمن أزيز الطائرات، إلى هدير الشاحنات، إلى محركات الاحتراق الداخلي، إلى الكمبروسرات، إلى زعيق الكفرات على الإسفلت، إلى لجلجة الدراجات النارية، وإلى ما قبل نصف ساعة وقبل أن أصل إلى منزلي وأبدأ هذا المقال، وعندما كنت واقفا أمام إشارة المرور الحمراء، صمّخ أذني صوت مطرب سخيف كان ينبعث من سيارة بجانبي ويخترق الزجاج ويقتحم عليّ خلوتي رغما عني، وما إن فتحت زجاج النافذة لكي أطلب تخفيض الصوت حتى تضاعف ارتفاعه عشرات المرات، ومن حسن الحظ أن الإشارة تحولت إلى خضراء، والحمد لله أنني وصلت إلى منزلي سالما.

المحافظون على البيئة يعتبرون انفلات الأصوات من ملوثات البيئة، والقرآن الكريم ذكر أن أنكر الأصوات صوت الحمير، ودعا إلى عدم الجهر بالصوت في الصلاة - أي عدم رفعه أكثر من اللازم.

وقد أصبحت الآن هناك وحدة لقياس الصوت تسمى «ديسيبل»، فحفيف أوراق الشجر مع نسمة لطيفة يقدر بـ«10 ديسيبل»، والهمسات من مسافة متر هي 20، والمحادثة العادية تصل إلى 60، ولكنها عندما تتجاوز 70 تصبح ضجة مزعجة، والشاحنة تصدر صوتا بقوة 90، والطائرة النفاثة تصل إلى 120 ديسيبل.

وكشفت الأبحاث لدى وكالة حماية البيئة في أميركا مثلا أن هناك ما لا يقل عن 80 مليون مواطن أميركي يعانون من اضطرابات خطيرة في حياتهم بسبب الضجيج، وأن نحو 17 مليونا آخرين مصابون باختلال في حاسة السمع، ولو أن هناك إحصائية أجريت في البلاد العربية، فكم سيكون عدد المصابين بالاضطرابات واختلال السمع يا ترى؟!

أتذكر عندما كنت طفلا صغيرا أننا كنا نسكن في الطائف بجوار المسجد القديم لابن عباس، ولا يمكن أن أنسى عندما كانوا يوقظونني في الصباح الباكر للذهاب إلى المدرسة، وكنت أهيم عشقا لسماعي لصوت المؤذن في الفجر وهو واقف فوق المنارة يؤذن بصوته الشجي دون أي «ميكروفون». كان الأذان حينها يبعث في نفسي الطمأنينة والسكينة، وكنت أتمنى ألا ينتهي.

كان الناس قديما يتهافتون ويتسابقون للسكنى حول المساجد، أما الآن فمع الأسف أصبحت الأراضي والمنازل الملاصقة للمساجد هي الأرخص، وقد يمر وقت طويل ولا تجد من يشتريها، وليس السبب لا سمح الله هو النفور من المساجد، لا أبدا، لكنه نفور من أصوات رعود الميكروفونات المتوحشة التي تزلزل أركان المنازل وتبعث الرعب في قلوب الأطفال، ولا تترك لا للعجوز ولا المريض فرصة للراحة، إنها والله لمعضلة، فبعض المساجد من دون مبالغة لا يفصلها عن بعضها البعض أكثر من مائة متر، ووقت الأذان والصلاة تبدأ الاشتباكات والتحديات بين «الميكروفونات، وأي الفريقين هو الذي سوف ينتصر على الآخر بالضربة القاضية، ولا تعرف من هو الذي يركع ومن هو الذي يسجد! هل تعلمون أنه منذ وصل اختراع الميكروفونات إلى بلاد المسلمين، صدرت فتوى بتحريم الأذان بها، لأنها تعتبر «بدعة»؟!.. ويا ليت تلك الفتوى استمرت إلى الآن.

وأثبتت الأحداث أن الضجيج قد يسرع نبضات القلب، ويؤدي لتناقص العصارات المعدية، واتساع بؤبؤ العين، وتقلص العضلات، وضعف القدرة على الإنتاج.

كما أن الضجيج - وهذه حقيقة مهمة يجب أن ينتبه لها من يهمه هذا الأمر - يضعف القدرة الجنسية إلى حد كبير.

فانتبهوا يا أولي الألباب، والحاضر منكم يعلم الغائب.

[email protected]