والتحجر السياسي (العربي): جنايته على يهود العالم المسالمين

TT

اليهودي الإسرائيلي أوفير لسل من فرنسا كتب معلقا على مقال الأسبوع قبل الماضي (يهود إسرائيل.. هل أصبحوا ضحية التحجر السياسي لقيادتهم؟). ومما قاله في رسالته: «نحن فعلا أسرى حكومتنا اليمينية الرافضة للسلام»، ولكنه حمّل العرب قسطا من المسؤولية في عدم إنجاز السلام. وكما وافَقَنا هو في النقطة الأولى، فإنّا نوافقه في النقطة الأخيرة مع حق الاختلاف معه في (تعليل) الموقف العربي وتحليله وفلسفته، فإذ ننتقد (التحجر الصهيوني)، فيتوجب نقد (التحجر السياسي العربي) في هذه القضية، بل لم يكن هناك فارق ذهني بين النقدين، بمعنى أنه حين كتبنا مقال الأسبوع قبل الماضي: تَخمّر في الذهن - لحظتها - مقال هذا الأسبوع، واختير عنوانه.

والتحجر العربي تجاه هذه القضية له صور عديدة، نختار منها صورتين اثنتين لفداحتهما وفظاعتهما:

أولا: الصورة الأولى: الجمود على فكرة أن إسرائيل خطر على فلسطين والشعب الفلسطيني وحدهما، وهو جمود أفضى إلى الوقوع في خطيئة استراتيجية جسيمة وهي (الإدراك الجزئي) لخطر جد كبير وهائل على العرب أجمعين.. وها هي الحقائق والوقائع تؤكد على أن إسرائيل يمتد تهديدها الوجودي إلى مجالات حيوية للعرب منها: استنزاف نهر الأردن حتى ليكاد يجف بعد عام «!!!»، وتصعيد التلويح بـ(الوطن البديل)، أي أن يكون الأردن وطنا للفلسطينيين.. أما فلسطين فهي خالصة لليهود وحدهم!!، وهو تصعيد صاحبته قرائن دفعت نخبة من العسكريين الأردنيين السابقين إلى التحذير من أن فكرة الوطن البديل قد اقتربت من المباشرة والتطبيق.. ومن التهديدات الإسرائيلية الجدية للعرب أجمعين: الركض الصهيوني المتزايد بهدف خنق مصر والسودان مائيا عند منابع النيل.. أما التهديد الأعظم والأخطر فهو (النووي الإسرائيلي). فالمستهدف بهذا النووي هم العرب (غير الفلسطينيين) بدليل أنه من المستحيل أن تستخدم إسرائيل سلاحها النووي ضد الفلسطينيين، ذلك أنها حين تفعل ذلك إنما تفجر النووي في نفسها نظرا للتلاصق الجغرافي، والاختلاط البشري.. وبسقوط هذا الاحتمال يتأكد أن النووي الإسرائيلي موجه إلى العرب الآخرين، إلى مدنهم وعواصمهم ومراكز اقتصادهم إلخ.. أوليس من (التحجر السياسي): أن يتوهم العرب أن إسرائيل خطر على فلسطين وحدها؟!

ثانيا: الصورة الثانية من الجمود أو التحجر العربي: إهمال (الأغلبية اليهودية الصامتة) في إدارة الصراع مع الحركة الصهيونية، وهو إهمال يبلغ مبلغ (الجناية) على هؤلاء الناس.

أليس من الغيبوبة العقلية السياسية العربية، أن ينحاز العرب إلى الصهيونيين الحمقى المحتلين الأشرار ضد اليهود العقلاء المسالمين في العالم، وهم الأكثرية؟

لو كانت هذه الأغلبية اليهودية الصامتة المسالمة لا تُرى بالعين المجردة لتوجب على العرب أن يبتكروا وسائل استكشافها ورؤيتها. بيد أن هذه الأغلبية معروفة ومعلنة عن نفسها. ومع ذلك أهملها العقل السياسي العربي المتحجر.

ولنفرد ما بقي من المقال لهذه الأصوات اليهودية التي ترتعب على مصائر اليهود وسمعتهم مما تمارسه الصهيونية من ظلم وطغيان واستبداد وكبر وحماقات:

1- منذ أيام انعقد في أوروبا (مؤتمر تأسيس للحركة اليهودية الليبرالية الجديدة) باسم (جاي كول). انعقد المؤتمر في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل.. ولقد انتقد المؤتمر سياسات إسرائيل (العمياء) وخطورتها على يهود العالم ككل، وطالب إسرائيل بأن «تنهي احتلالها للأراضي العربية منذ عام 1967 والتوقيع على اتفاق سلام مع الفلسطينيين على أساس مبدأ دولتين وشعبين».

2 - قبيل ذلك بأيام وقع ثلاثة آلاف شخصية يهودية من مثقفي اليهود وكتابهم ومفكريهم وناشطيهم في أوروبا، وقعوا عريضة ورفعوها إلى البرلمان الأوروبي.. ومما جاء في العريضة: «إن إسرائيل تواجه تهديدا بسبب الاحتلال والسعي المستمر من أجل بناء مستوطنات في الضفة الغربية وفي المناطق العربية بالقدس الشرقية. وهذه السياسات خطأ من الناحية الأخلاقية والسياسية وتغذي عملية نزع الشرعية عن إسرائيل.. إن الدعم المنهجي لسياسة الحكومة الإسرائيلية خطير، ولا يخدم المصالح الحقيقية لدولة إسرائيل».

3- ألّف اليهودي البريطاني جون روز كتابا بعنوان (أساطير الصهيونية).. ومما كتبه في كتابه هذا: «إن الصهيونية هي المشكلة وإزالتها هي الشرط الأساسي للسلام في الشرق الأوسط. فالصهيونية تهديد لا يقتصر على الفلسطينيين وإنما يهدد مستقبل اليهود.. إن عددا من اليهود الذين عملوا في السابق في المؤسسة الصهيونية أصبحوا الآن يخافون حقا من الوحش فرانكشتاين الذين ساعدوا هم أنفسهم في خلقه».

4 - يقول الحاخام اليهودي الأميركي الشهير يسرويل ويس: «إن إسرائيل أفسدت كل شيء على الناس جميعا: اليهود منهم وغير اليهود.. يجب ألا تكون لنا دولة. يجب أن نعيش بين الأمم كما ظل يفعل اليهود منذ أكثر من ألفي عام كمواطنين مخلصين يعبدون الله ويتصفون بالرحمة الربانية.. وعلى عكس مما يعتقد الناس، هذه الحروب التي تشنها إسرائيل ليست دينية، فقد كنا نعيش بين المجتمعات المسلمة والعربية دون أن تكون هناك حاجة إلى رقابة منظمات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان.. لقد قامت الحركة الصهيونية بخلق مفهوم تحويل اليهودية من ديانة روحية إلى شيء مادي ذي هدف قومي للحصول على قطعة أرض. وجميع المراجع قالت: إن هذا الأمر يتناقض مع ما تدعو إليه الديانة اليهودية، وهو أمر محرم قطعا في التوراة لأننا منفيون بأمر من الله».

5- وجهت منظمة (يهود التوراة الحقيقيون)، وهي منظمة أميركية، إلى الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش مذكرة تخاطبه باسم الأغلبية اليهودية الصامتة في الولايات المتحدة.. وهذه هي أهم وأبرز فقرات المذكرة:

«فخامة الرئيس.. نود على أي حال أن نستلفت بكل احترام انتباهكم إلى أنه على الرغم من إدراككم بأن هناك العديد من اليهود الذين يؤيدون إسرائيل، فإن الذي يحتمل ألا تكونوا قد سمعتم عنه هو وجود أغلبية صامتة من اليهود معارضة للصهيونية تظل وسائل الإعلام متجاهلة لها، وهي أغلبية باقية على صمودها في الولاء لتعاليم حاخاماتها التي تقول: إن الفكر الصهيوني ينافي تماما ديانتنا اليهودية.. لقد أعلن أحد أعظم أنبياء الكتاب المقدس في الفصل 29 من كتابه رسالة الرب لكل المنفيين، حيث تقول الآية التاسعة (اسعوا إلى تحقيق الرفاه في المدينة التي نفيتكم إليها وصلوا من أجلها لله تعالى لأنه من خلال رفاهها سوف يتحقق رفاهكم).. وقد كانت تلك الآية حجر الزاوية في الأخلاق اليهودية طوال تاريخنا وحتى يومنا هذا.. إن الحركة الصهيونية ترفض المبادئ الأساسية للتوراة والحاخامات. بينما اليهود ليسوا في حاجة إلى دولة تكون لهم وحدهم لأن إقامة دولة يهودية تُعد انتهاكا خطيرا لتقاليد اليهود وقوانينهم. لذلك فإن الصهاينة لا يمثلون الشعب اليهودي بأي طريقة كانت، كما أن ليس من حقهم أن يتحدثوا باسم الشعب اليهودي. ولذلك فإن أقوالهم وأفعالهم لا تمثل الشعب اليهودي بأي حال من الأحوال. لذلك سيدي الرئيس، فإن الأمر الأكثر إلحاحا هو أنه لا ينبغي أن يشار إليها على أنها دولة يهودية، لكن يجب أن يشار إليها على أنها دولة صهيونية، فإن أساس وجودها ليس الديانة اليهودية بل الفكر الصهيوني. وإننا نشعر بقلق شديد من الإشارة إليها بأنها دولة يهودية، فهو أمر يعرّض رفاه اليهود في العالم كله للخطر من خلال ربط اليهود واليهودية بأفعال الدولة الصهيونية.. إن الدولة الصهيونية ومن يدعمها ويؤيدها في العالم كله تسعى إلى اتخاذ كافة الإجراءات الممكنة، بما في ذلك إثارة الكراهية لليهود من خلال سياسات إسرائيل، وذلك لإقناع اليهود بالانتقال من مواطنهم في الدول المختلفة إلى دولة إسرائيل، وفي الواقع فإن تعميق الكراهية لليهود يمثل شريان الحياة والهواء الذي تتنفسه وتعيش عليه الحركة الصهيونية ودولتها اللتان تتعارضان كليا مع اليهودية.. نحن نوقن بأن بلادنا (الولايات المتحدة) سوف ترحب بهؤلاء اليهود الذين يرغبون في مغادرة دولة إسرائيل ويكونون سببا في جلب نعم وبركات عظيمة على أميركا.. سيدي الرئيس.. نحن نقدر لكم مقاصدكم ونواياكم الطيبة تجاه اليهود، لكننا نؤمن بقوة بأن بركات الرب على الولايات المتحدة سوف تزداد لو عملت أميركا وفق الفوارق بين اليهودية والصهيونية».. التوقيع: الأغلبية الصامتة من اليهود الأميركيين.

أليس من التحجر السياسي العربي: المهدر للمصالح العربية، والمتسبب في أذية يهود العالم العقلاء المسالمين: أن يهمل العرب هذه الأصوات اليهودية العاقلة، وأن يتراكضوا للتعامل مع الحمقى والظلمة والمستكبرين الصهيونيين من أمثال نتنياهو وليبرمان؟!!!

بلى.. بلى.. بلى.. إنه التحجر السياسي عينه.

لقد تحجر السلام بين تحجرين رهيبين: التحجر السياسي الصهيوني.. والتحجر السياسي العربي.