دروس تشكيل الحكومة البريطانية الجديدة

TT

بعد مرور 117 ساعة على إقفال مراكز الاقتراع، وهي أطول فترة انتظار لتشكيل حكومة في الذاكرة البريطانية الحية، توجه غوردن براون، رئيس الحكومة العمالية السابقة في موكبه الرسمي نحو قصر باكنغهام.

موكب رئيس حكومة بريطانيا مجرد ثلاث وحدات: موتوسيكل بوليس مرور بمصباح متردد «فلاش» أزرق؛ وسيارته الجاجوار الإنجليزية الصنع بشرطي واحد بملابس مدنية يجاور الشوفير والمستر براون في المقعد الخلفي، وبدلا من سكرتيره، جلست زوجته سارة ؛ ووراء سيارته لاندروفر مدنية المظهر فيها ثلاثة رجال بوليس بملابس مدنية. ولم يكن للاندروفر وجود قبل عدوان «القاعدة» الإرهابي على لندن عام 2005. أحيانا تجد ثلاثة موتوسيكلات في حالة كثافة المرور.

نقل السلطة عادة يتم في ساعات، وأطولها كان 48 ساعة في نهاية حكومة إدوارد هيث 1974. تقاليد نقل السلطة لم تتغير منذ عام 1660 عند استعادة تشارلز الثاني النظام الملكي بعد عض الأمة أصابع الندم بتجربة نظام كمونوليث اوليفر كروميل بين 1649 و1658؛ وبعدها أقسم العسكر ألا يتدخلوا مرة أخرى في شؤون الحكم. ويكررون منذ 1658 أداء ولاء كل قوات الجيش والأمن والمخابرات لرأس الدولة عند تتويجه، في فصل تام بين الدولة الثابتة ورأسها التاج، والحكومة التي يغيرها الشعب كل بضع سنوات في صناديق الاقتراع.

وفق تقاليد عمرها 550 عاما وفرت للأمة الاستقرار والعظمة التاريخية بين أمم العالم، تحت رعاية التاج، فوق رأس الملكة إليزابيث الثانية التي يراها أغلبية الشعب أمهم الحنون ويصفها المؤرخون بالصمغ الذي يلصق أجزاء الأمة، توجه موكب براون ليقدم استقالة حكومة العمال، بعد 13 عاما من الحكم، إلى الملكة بعد انحناءته الأولى.

بعد انحناءته الثانية، وقبل الرجوع بظهره للوراء، إذ تحرم التقاليد الملكية البريطانية إدارة أحد الرعايا ظهره لحاملة الصولجان، استأذن براون الملكة في تقديم نصيحته بأن تستدعي جلالتها غريمه السياسي ديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين وتطلب منه تشكيل حكومته باعتباره صاحب أكبر عدد من مقاعد مجلس العموم.

المحافظون حصلوا على 306 مقاعد - 20 أقل من عدد الأغلبية المطلقة - والعمال 258، والديمقراطيون الأحرار 57. و28 مقعدا للأحزاب الأخرى، بينما أجلت الانتخابات في الدائرة 650 حتى يظهر مرشح بديل عن الذي توفي بعد قفل باب الترشيح؛ في اقتراع بدأ السابعة صباح السادس من مايو (أيار) في أكثر من 4500 مركز اقتراع، لم يظهر في أي منها رجل بوليس واحد.

وباستثناء أربعة مراكز جاءت الشرطة التي لا تحمل أسلحة هنا، لحراسة الصناديق بعد محاصرة محتجين تركهم إغلاق الأبواب في العاشرة مساء مصطفين في الطوابير خارجها، لم تقع حوادث أو مشاجرات، فقط وجهت امرأة السباب لرئيس مركز بوصفه «مهملا كسولا»، وتنازل الأخير عن حقه في مقاضاتها.

غادر براون وزوجته وطفلاه، جون وفريزر، القصر بلا موكب، في سيارته يسوقها الشوفير، وبجانبه شرطي حراسة واحد، بلا موتوسيكل أو لاندروفر؛ فهو لم يعد رئيسا للحكومة، فقط عضو برلمان عادي. واستغرق مشوار العودة لمنزله في دائرته الانتخابية ساعة إضافية بسبب زحمة المرور فلا يوجد موتوسيكل يفسح الطريق.

مشوار كاميرون جاء معاكسا. تأخر وصوله نصف ساعة لأداء مراسم «تقبيل اليد الملكية» أي تلقي التكليف بتشكيل الحكومة. السبب زحمة المرور، فقد كان بلا موكب يقوده موتوسيكل المرور، وبجانبه زوجته بنت الأرستقراطيين، سامنثا، في سيارة مملوكة للحزب ويقودها شوفير مرتبه من ميزانية البرلمان كسائق زعيم معارضة جلالة الملكة - فكل من الحكومة والمعارضة ينتسبان للملكة لأنها رأس الدولة.

ومثل سارة براون، جلست سامنثا الحامل في خمسة أشهر، في طفلهما الرابع، وكانا فقدا طفلا في السادسة من العمر، اختطفه المرض العام الماضي، على مقعد صغير في الردهة المؤدية لمكتب جلالة الملكة. دخل كاميرون وحده لينحني لتطلب منه الملكة تشكيل الحكومة.

رحلة العودة لرقم 10 داوننغ ستريت، استغرقت دقائق فقط، في الموكب الثلاثي: موتوسيكل، سيارة كاميرون، واللاندروفر، متخطية إشارات المرور الحمراء، فقد أصبح الآن رئيسا لحكومة الملكة، وبإذنها يتخطى إشارات المرور، باعتبارها الشخصية الوحيدة التي لا تنطبق قواعد المرور على موكبها.

وفي حالات استثنائية فقط، تغلق ثلاثة شوارع أثناء موكب الملكة: افتتاح الدولة الرسمي للبرلمان، حيث تذهب في عربة مكشوفة تجرها الخيول وأمامها فرسان الحرس الملكي بالسيوف والخوذات اللامعة المتدلي منها شعر ذيول الخيل الشهباء؛ أو وصول ضيف للملكة في زيارة دولة. طريق المال The Mall بأشجاره الضخمة المؤدي إلى ومن القصر؛ وشارع وايتهول الموصل ميدان الطرف الآخر بميدان البرلمان، حيث مباني الوزارات، وميدان البرلمان. الإغلاق يعلن عنه مسبقا قبلها بأسابيع وتتوفر طرق بديلة.

كان تشكيل الحكومة، وهي ائتلافية هذه المرة من المحافظين والديمقراطيين الأحرار، استغرق مائة ساعة، أو خمسة أيام، صب فيها المعلقون والصحافيون جام غضبهم على الأحرار وشبههم البعض بغانية تريد بيع بضاعتها لمن يدفع الثمن الأعلى، عندما تنقل زعيمهم نيكولاس كليغ، في مقابلاته بين المحافظين والعمال بحثا عن مكاسب سياسية يحصدها بائتلافه مع أحدهما.

بقيت بريطانيا خمسة أيام بلا حكومة، لكن الأمور دارت بدقة الساعة، بما في ذلك عشرات الوزارات ومئات المصالح والجيش يحارب في أفغانستان، وستة اجتماعات ومؤتمرات دولية، في أوروبا وأميركا وآسيا، تم فيها تمثيل البلاد بشكل كامل.

السبب أن بريطانيا دولة مؤسسات يديرها خدم التاج، أي موظفي الدولة الثابتين التابعين للملكة ولا يحق لرئيس الحكومة فصلهم أو تعيينهم، ويتبعون التقاليد التي لم تتغير لـ550 عاما؛ فدولة المؤسسات والقانون، خاصة في النظام الملكي، وبريطانيا نموذجه الأكثر مثالية، هي ضمان ثبات الأمة واستقرارها وسلامتها.

الدرس الأخير هنا، أن الضغوط، وإن جاء بعضها في شكل شتائم أحيانا لزعيم حزب الأحرار كليغ، من المعلقين الصحافيين، دفعت بالخصمين اللدودين، كاميرون وكليغ، إلى تقديم تنازلات كبيرة، ووضع مواقفهما العقائدية جانبا من أجل المصلحة القومية البريطانية بعد أن أدى تأخر تشكيل الحكومة إلى انخفاض الإسترليني وتذبذب سوق المال.

في أول مؤتمر صحافي له كرئيس وزراء ذكر أحد الزملاء كاميرون بأنه مرة وصف كليغ، الذي أصبح نائبه في الائتلاف، بأنه «نكتة» فاعتذر رئيس الحكومة مضيفا: «سأتناول فطيرة المهانة بشهية من أجل المصلحة الوطنية».