الإبداع.. وثقافة الإيذاء

TT

لكل أمة من الأمم ثقافتها الخاصة بها، وربما تقترب ثقافات الأمم بعضها مع بعض في جانب من الجوانب، أو تتقاطع قيمها وأهدافها الثقافية على نحو ما، لكنها تتلاقى على أي حال، وتتفق تماما، في ما يسمى بالمشتركات الإنسانية، مثل حب الخير للغير، وإحقاق الحق، وتقدير الجمال والإبداع، وكل ما يصب في مصلحة الإنسان، أو يتمحور حول حقوقه، مما يعد هدفا أسمى لا يختلف فيه أحد مهما كانت أصوله العرقية أو الدينية. من هنا كانت ثقافة المجتمع، الداعمة لحفظ حقوق الإنسان، وكرامته، هي الميدان الأوسع لتحقيق فرص التطور وخلق الإبداع.

وفي حال تحجيم هذا النوع من الثقافة، يتقلص دور الفكر، ويتقزم طموح الإنسان، ويصاب بالخوف من المصير الذي ينتظره إذا ما أبدع، فيقع في التردد عن الإقدام على ما يؤمن به من أفكار إبداعية، وقد يلجئه ذلك إلى العزلة عن المجتمع وعن الفكر والثقافة الفاعلة، كحل اضطراري إزاء تصاعد الحواجز المعيقة في طريقه، والعقبات الكثيرة المثبطة.

وفي المجتمع العربي وغيره من المجتمعات، أفراد يحملون عقدا اجتماعية ونفسية، ناتجة عن إخفاقاتهم وفشلهم الفردي، مما انعكس سلبا على نظرتهم إلى الإبداع والمبدعين، بل انعكس على نظرتهم إلى المجتمع كله، فهم في صراع دائم مع أنفسهم، وخصومة مستمرة مع من حولهم، فأخذ هؤلاء على عاتقهم محاربة الإبداع والمبدعين على المستوى الشخصي، وتأليب الآخرين عليهم، لكونهم لا يستوعبون هذا الإبداع، لقصور ثقافتهم الإنسانية، وعجزهم الذهني عن مقارعة الإبداع بإبداع مثله. تلك الشخصيات المهزوزة تمثل أقصى درجات ثقافة الإيذاء في مجتمعاتنا، لهذا لا غرابة أن تنعكس هذه الثقافة الإقصائية والعدوانية على واقع الإبداع والمبدعين في عالمنا العربي، خصوصا عندما تخلط ثقافة الإيذاء هذه بتلك الخلطة السرية - العشائرية، الحزبية والطائفية - التي أبدعنا في تركيبها أيما إبداع!

ولكي نربط بين الشكل والجوهر، فإن علينا أن لا نتجاهل التناغم الحاصل بين عقدة الإخفاق والشعور بالنقص والدونية المتجذرة في بعض أفراد المجتمع، وبين الشخصية التي تنتشي عند إيذائها الآخرين، خصوصا المبدعين منهم، وتنسج الخيوط التي تعرقل المبدع. ولا شك أن هذا الفكر يحمل نوعا من العدوانية، ويصنف كإحدى صور العنف. وهذه الثقافة تكون، ولا بد، على حساب ثقافة الدعم والتشجيع، ما يؤدي حتما إلى ضمور الإبداع، وغياب دوره الريادي في دولنا ومجتمعاتنا.

وهذا يدفعنا إلى السؤال عن أسباب هذه الثقافة: هل هو الجهل، أم الإحباط والشعور بالدونية أمام المبدعين، أم طبيعة المجتمع وقابلية أفراده لافتعال الخصومة ثم الإيذاء، لأسباب لا يمكن تفسيرها؟ إنها أسئلة لا يمكن أن نغض عنها الطرف، كما لا نستطيع الجزم بعدم استلالها من أرض الواقع. وإذا لم نواجهها بصدقية وشفافية، فإننا نكون كمن يدس رأسه في الرمال، ويهرب من واقعه، عجزا أو جبنا عن التصدي لمثل هذه الحالات المرضية.

المطلوب منا هو تحفيز الذات وتحفيز مجتمعاتنا لتصحيح الخطأ بالصحيح، ووضع الأمور في نصابها، وتعرية هؤلاء المؤذين، المعيقين للإبداع، بعيدا عن النهج التبريري، أو التبريئي، الذي يخاف صاحبه الاعتراف بالخطأ، لو كان يعلم أنه فضيلة.

ومن باب الإنصاف، لا بد أن نعترف بأن هذه الثقافة ليست حكرا على دول العالم الثالث، أو الدول الأقل تقدما، بل هي موجودة حتى في دول العالم الأول، وفي المجتمعات المتقدمة، لكنها لا ترقى إلى الدرجة التي وصلت إليها عندنا في العالم العربي مما جعلها مجتمعات طاردة للمبدعين بدلا من أن تكون جاذبة لهم كما هي في الدول المتقدمة.

مع أن صور الإيذاء تختلف، ومظاهره تتعدد، باختلاف البنية الاجتماعية، وما ينتج عنها من رؤى وأفكار تتخلق عبر الزمن، وعبر تكريس الأنماط الاجتماعية. فصورة الإيذاء في العالم العربي، مثلا، تختلف عن صورة الإيذاء في العالم الغربي. وهكذا بالنسبة إلى المجتمعات الأخرى. وعلى الرغم من تلك المعوقات أمام الإبداع والمبدعين في عالمنا العربي، يبقى الإبداع ثم الإبداع ثم الإبداع هو السلاح الأنجع أمام ثقافة الإيذاء تلك!