حرب الداخل الفلسطيني حفاظا على الهوية العربية

TT

يوم 24 أبريل (نيسان) الماضي، اعتقلت إسرائيل الدكتور عمر سعيد من منزله في قرية كفر كنا المحتلة منذ عام 1948، وهو أحد مؤسسي حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي كان يرأسه الدكتور عزمي بشارة.

يوم 6 مايو (أيار) الحالي اعتقلت إسرائيل أمير مخول من بيته في مدينة حيفا، وهو من نشطاء العمل الأهلي، ويرأس اتحاد الجمعيات الأهلية العربية (اتجاه).

لم تعلن إسرائيل أنباء الاعتقال، ومنعت الصحف وأجهزة الإعلام من نشر النبأ بناء على قرار رسمي صدر بذلك. ولم يرفع حظر النشر إلا يوم 10 مايو.

التهم الموجهة للناشطين، وفي الذكرى الثانية والستين للنكبة، «أنهما ارتكبا مخالفات أمنية خطيرة، ومن ضمنها التجسس والاتصال مع عميل أجنبي من قبل حزب الله». وهي التهم نفسها التي وجهت إلى الدكتور عزمي بشارة عام 2006، بعد نشاطه السياسي الواسع داخل فلسطين وخارجها.

بهذا تتوالى قصة إسرائيلية متكررة: نشاط سياسي لشخصيات قيادية فلسطينية، يتلوه اعتقال، واتهام أمني، قد يفضي بصاحبه إلى السجن المؤبد.

ومن الخطأ النظر إلى هذا الحادث باعتباره حادث اعتقال عاديا. إنه أمر سياسي خطير، وستكون له نتائجه الخطيرة أيضا. وهنا من الضروري أن نتذكر حدثين:

الحدث الأول: هو الذي أعلنت عنه إسرائيل قبل أسابيع قليلة، بالعمل على إبعاد فلسطينيي غزة من الضفة الغربية، بحجة أنهم لا يملكون أذون إقامة قانونية، لأن إسرائيل تعتبر أن الفلسطيني يحتاج إلى إذن إقامة للعيش في وطنه. وقد دخل هذا القرار الإسرائيلي حيز التنفيذ فعليا.

الحدث الثاني: هو الذي جرى عام 2006، وبعد حرب لبنان بالذات. إذ شكلت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وفدا رسميا طلب مقابلة القيادة السياسية، حيث تم إبلاغها بأن وضع الأقلية الفلسطينية داخل دولة إسرائيل أصبح يشكل خطرا على أمن الدولة. فقد تشكلت أحزاب وهيئات وجمعيات ومنظمات مجتمع مدني، بدأت تنشط انطلاقا من فكر قومي عربي يشكل خطرا على إسرائيل، ويوجد على رأس هذا النشاط قيادات يقتصر نفوذها الآن على النخب، ومن الممكن أن يتحول هذا التأثير من النخب إلى الشارع الفلسطيني، فيصبح الوضع آنذاك خطيرا جدا. ولذلك، يجب التحرك لضبط هذه الظاهرة، ومحاصرتها، وترويعها، وتطويعها لمطالب السياسة الإسرائيلية. وتم على إثر هذا اللقاء إثارة موضوع الدكتور عزمي بشارة، وزياراته إلى البلدان العربية (العدوة) حسب الوصف الإسرائيلي. وأعلنت شخصيات إسرائيلية معروفة أن أجهزة الأمن بدأت تحضير ملف إدانة للدكتور بشارة، سيعتقل على أساسه ويقدم للمحاكمة، والتهمة أمنية وليست سياسية: الاتصال مع حزب الله في لبنان، وتقديم معلومات له، وتلقي مساعدات مالية منه. وكان الهدف تصوير الدكتور بشارة على أنه عميل مأجور، بينما كان الهدف الفعلي هو محاصرة حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يرأسه، وتقييد نشاطه. ونقلت هذه الشخصيات عن قادة أجهزة الأمن قولهم: لا يوجد إنسان لا يمكن تدبير ملف أمني ضده.

والذي يحدث الآن، وجنبا إلى جنب مع عمليات إبعاد المواطنين الفلسطينيين، هو اعتقال مزيد من القيادات الفلسطينية، ومحاولة تزييف نشاطها السياسي الذي أصبح مؤثرا وفعالا في المحيط الشعبي، وتصويره على أنه نشاط أمني تجسسي. وسيتلو هذا حتما: السجن، أو الإبعاد، ثم نشر جو من التخويف لشل عمل هذا الحزب والأحزاب والهيئات الفلسطينية الأخرى. ومن شأن هذا كله أن يوجد مناخا مناسبا لتنفيذ سياسة الترانسفير، وعلى قاعدة التمييز العنصري.

وقد بادرت القيادات الفلسطينية إلى شن حملة مضادة لهذه الاعتقالات، وركزت على كشف أهدافها السياسية الحقيقية. وفي هذا السياق، قال الدكتور جمال زحالقة رئيس كتلة التجمع الوطني الديمقراطي البرلمانية، «إن هذه القضية هي قضية سياسية وتعمل السلطات الإسرائيلية على تحويلها إلى قضية أمنية، عملا بسياسة إسرائيل لإعطاء بعد أمني للعمل السياسي الوطني والتواصل مع الأمة العربية». وقالت النائبة حنين زعبي إن هذه الاعتقالات تهدف إلى تقويض شرعية العمل السياسي الفلسطيني برمته. وقالت: «لقد صرح (الشاباك) قبل أربع سنوات بأنه سيستهدف كل عمل سياسي لا يعترف بإسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية حتى لو كان قانونيا، وها هو (الشاباك) يقوم بتحويل التصريحات إلى سياسة عملية». وقال عوض عبد الفتاح أمين عام التجمع: «إن المؤسسات الصهيونية تسعى إلى إعادتنا إلى الوراء في ما يتعلق بخطابنا، وفي ما يتعلق بالعلاقة مع الأمة العربية، العلاقة السياسية والثقافية والإنسانية المشروعة، عبر وضع هذه العلاقة في خانة المحرمات والمحظورات الأمنية». وقال مصطفى طه نائب الأمين العام للتجمع: «إن عقلية (الجيتو) التي يحاولون فرضها علينا لن تجدي نفعا.... ولن يستطيعوا فصلنا عن فضائنا العربي، لأننا ننتمي إليه حضاريا وثقافيا». ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن عضو الكنيست محمد بركة (الحزب الشيوعي) قوله: «إن الفاشية على الأبواب: سن القوانين في الكنيست، مصادرة حقوق المعتقلين، ومحاكمة القيادات العربية بسبب نشاطها السياسي».

توضح هذه التصريحات حقيقة المعركة التي تدور رحاها بين القيادة الإسرائيلية والقيادات الفلسطينية في الداخل. ولذلك... وحين جرى التركيز عند صدور قرار إبعاد أبناء غزة من الضفة الغربية، أن القضية ليست قضية أفراد، وليست قضية إبعاد ومبعدين، وإنما هي بداية حرب، ولهذه الحرب أهدافها التي لا تقل فداحة عن حرب 1948 وما جرى فيها من إبعاد وترحيل. والذي بدأ في الضفة الغربية، يجد تطبيقه الأخطر والأشمل في الأراضي المحتلة منذ عام 1948، وفي حملة منظمة ضد القوى الوطنية، وضد القوى الإسلامية، وممثلها البارز الشيخ رائد صلاح، الذي يعمل علنا من أجل القدس، تحت شعار (القدس في خطر)، ثم تقدمه إسرائيل إلى المحاكمة بتهمة الاعتداء على شرطي. ويذكر هنا أن هناك خمس دعاوى إسرائيلية مرفوعة ضد الشيخ رائد صلاح، برّئ حتى الآن من واحدة منها فقط.

ومن المفيد الإشارة هنا إلى ظاهرة جديدة ومتميزة، فحين تلتقي التحشدات في القدس، وبخاصة يوم صلاة الجمعة، يكون المشاركون من الضفة الغربية ومن القادمين من أراضي فلسطين المحتلة عام 1948. وحين يحتفل حزب التجمع الوطني الديمقراطي بذكرى تأسيسه الـ15 يكون الجمهور مكونا من ثلاث قوى: الأهل في الداخل، والقادمون من الضفة الغربية، والسوريون القادمون من الجولان المحتل. ويحدث هذا التلاقي في الاحتجاج على الاعتقالات، وفي الاحتجاج أيضا على ما يجري في القدس.

ويشكل العمل في إطار هذه الظاهرة التضامنية، كسرا للسياسة الإسرائيلية، فبينما هي تريد محاصرة العمل الوطني الفلسطيني وحصره داخل (جيتو) المفاهيم الصهيونية للعمل السياسي، تأتي سياسة التضامن هذه لتكسر الحواجز، ولتوسع من إطار العمل الوطني الفلسطيني، لتحوله أولا إلى عمل فلسطيني واحد، ولتحوله ثانيا إلى عمل فلسطيني عربي.

لقد بدأ هذا التحرك الفلسطيني الجديد من نوعه في مطلع عام 1996، أي بعد فترة وجيزة من دخول اتفاق أوسلو حيز التنفيذ، وهو يشكل بهذا المعنى تجاوزا وتخطيا لسياسة تفاوضية أدرك الأهل تحت الاحتلال مخاطرها، فواجهوها بعمل سياسي وطني من نوع جديد، فمدوا أيديهم نحو أمتهم العربية، بينما يحاول الصهيونيون منع هذه الأيدي من التلاقي.