العرب والقنبلة الذرية

TT

«الصيف ضيعت اللبن» جملة قديمة لست أعرف الظروف التي قيلت فيها ولا حتى الهدف من قولها، ولعل ارتفاع درجة الحرارة في القاهرة الأسبوع الماضي الى حد مخيف، هو الذي انتشلها من أعماق اللاوعي عندي لتطفو على سطح عقلي وترغمني على التفكير في ما تطرحه من معان، ولنبدأ بأبسط الأسباب كما يفعل الأطباء والميكانيكية، لا داعي للتفكير العميق والبحث عن الأسباب البعيدة أو المعقدة، لقد فسد اللبن بسبب ارتفاع درجة الحرارة وليس لارتباطه بالصيف كفصل من فصول السنة، الأشياء سريعة التلف تفسدها درجات الحرارة المرتفعة، ولا شك أن البشرية قد اندفعت عدة خطوات إلى الإمام باختراع آليات التبريد، فهل يمكن اعتبار آليات التفكير عند البشر مادة سريعة التلف، تفسدها درجات الحرارة المرتفعة. هل الحكومات ورجال السياسة والمفكرون أيضا تؤثر فيهم بالسالب درجات الحرارة المرتفعة وتدفعهم لتبني أفكار سريعة التلف؟

حتى جلوسك طول الوقت في أماكن مكيفة لا يمنع إحساسك بالحصار ولا يزيل عنك الخوف من ذلك العدو السمج الذي يربض في انتظارك خارج مكتبك مما يجعلك أقرب لاتخاذ القرارات الخاطئة، أنا فقط أحاول تنبيهك إلى أن أخطائي في التفكير - إن وجدت - في هذا المقال، فالمسؤول عنها هو الصيف وليس أنا، ولنبدأ بالسؤال الذي طرحه في العدد الماضي الأستاذ غسان الإمام: ماذا يفعل العرب وهم يتفرجون على تسارع السباق النووي في منطقة تمتد من الهند وباكستان إلى إيران وإسرائيل؟

لقد طرح السؤال وترك لنا مهمة الإجابة عليه وإن كان هو أقرب إلى فكرة أن يسرع العرب إلى الانضمام إلى هذا السباق والحصول على القنبلة الذرية بأي طريقة وبأي ثمن، محذرا من الاستناد إلى فكرة ساذجة هي أن المجرمين لا يستخدمون سلاحهم ضد الشرطي المجرد من السلاح.

وهو يرى ما نراه جميعا وهو أن إيران تسعى للحصول على القنبلة الذرية لتهديد العرب وليس إسرائيل، لأن إسرائيل تمتلك هي الأخرى القنبلة الذرية. الواقع أنه طبقا لكل حسابات السياسة والحرب والسلام، إسرائيل لن تنتظر إلى أن تنتهي إيران من صنع قنبلتها النووية، هذا الاحتمال غير موجود في أدراج ومكاتب وعقول الجنرالات الإسرائيليين ولعل هذا بالضبط ما يخيف أميركا والغرب والشرق أيضا ويدفعهم جميعا إلى أقصى درجات الصبر السياسي وضبط النفس في تعاملهم مع إيران لأنهم يعرفون جيدا ماذا يمكن أن تفعله مثل هذه الضربة أو الضربات من ردود فعل في المنطقة وربما العالم. المثير للاهتمام فعلا هذه الأيام أن قيادات إسرائيلية كبيرة استسلمت هي الأخرى لإغراءات التهديدات، أو ارتفاع درجة حرارة الصيف، فدخلت في المزاد وذلك بالتصريحات الملتهبة لموشي يعلون نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي. أما حكاية أن هناك تسارعا في السباق النووي في منطقة تمتد من الهند وباكستان إلى إيران وإسرائيل، فالواقع أن حلبة السباق يجري فيها الآن حصان واحد هو إيران وما زال الشوط بعيدا بينه وبين خط النهاية، الهند وباكستان وإسرائيل انتهت من السباق منذ وقت طويل، ولا بد أنهم اكتشفوا جميعا الآن أن القنابل الذرية عاجزة عن مواجهة البشر عندما يفخخون أنفسهم لكي يموتوا ويميتوا أعداءهم. لا بد أنهم اكتشفوا أيضا أنه في غياب حلول سلامية واقعية لمشاكل البشر، تفقد القنبلة الذرية أهميتها.

غير أن سؤال «ماذا يفعل العرب؟» هو بالفعل السؤال الأكثر أهمية وخطورة، وهو سؤال فخ من تلك الفخاخ الشهيرة المختبئة تحت المنطق الصوري الأرسطي لسبب بسيط هو أنه يستخدم المعنى الكلي وهو كلمة (العرب) وكل المعاني الكلية من الممكن أن تذهب بالعقل إلى لا مكان. ربما يكون لاستخدام المعنى الكلي وجاهته أو مجاله، غير أني أفضل المعنى المحدد الذي يمكن فهمه والتعامل معه، وبالتالي فأنا أفضل أن يكون السؤال هو: ماذا تفعل أقوى دولتين عربيتين في المنطقة وهما مصر والسعودية في مواجهة كل السحب الخطرة التي تتجمع الآن منذرة بأمطار سوداء؟

لو أنه يمكن شراء القنابل الذرية ومفاعلاتها وأطقم حراستها وحمايتها وتأمينها، بشرط أن يتم ذلك في ساعات، لوافقت على الفور على هذا المشروع الذي سيمنع المجرمين من ضربي لأنني لا أحمل سلاحا. أما لأن هذا الأمر مستحيل فعلي أن أفكر فيما هو متاح لنا، وفيما يحتمه شرف الحكم والسياسة. لا بد من ملاحظة أنه في ما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي، هذا وقت ضائع وسيأتي بعده وقت أكثر ضياعا، فليتفاوض الطرفان المتصارعان بشكل غير مباشر أو مباشر، وذلك بعد أن قررت أميركا والعرب والعالم كله، ربما بدافع من اليأس، الحصول على إجازة صيف طويلة (أربعة شهور) يتفاوض فيها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي ويرتاح فيها هو من هذا الصداع الذي عجزت كل شركات الأدوية عن مداواته.

السعودية ومصر لا يجب أن تسمحا بضياع دقيقة واحدة في تحديث المجتمعين والبلدين، وهو التحديث الذي يضمن لهما دعم العالم كله في مرحلة من التاريخ تهتم بحقوق الإنسان ورفاهيته، هناك سباق الآن بالفعل ليس مضماره الوصول إلى القنبلة الذرية بل الوصول إلى مجتمع مدني يشعر فيه الإنسان الفرد بالعدل والحرية وتنشغل فيه الجماعة بالتنمية. غير أن ذلك لا يحمي من أخطار العصر، لا بد من قوات مسلحة عصرية وهو الأمر الحتمي في كل العصور والأوقات، من المستحيل الفصل في التحديث بين المجالين المدني والعسكري، هذا هو درس التاريخ. وما نردده كثيرا عن «العقيدة القتالية» في حاجة إلى وقفة، فأنا أزعم أنه لا يوجد شيء بهذا الاسم، لقد شاعت هذه المقولة بعد اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية، وعطلت طويلا استغلال سيناء، باعتبار أن القتال بين المصريين والإسرائيليين يرقى إلى مرتبة العقيدة فطوال التاريخ كان العدو يأتي من الشمال وهذا صحيح بالفعل، غير أنه لم يكن عبرانيا دائما. هناك قوات مسلحة فقط جاهزة للقتال في أي جبهة وضد أي عدو بمجرد صدور الأوامر إليها بذلك. أنا لا أعتقد أن مصر والسعودية على استعداد للهجوم أو العدوان على أحد، فعندما تنشغل بتنمية مجتمعك، والعناية بأهلك، من المستحيل أن تفكر في العدوان، وهنا أتذكر مقولة لكلاوتزفتز بأن «الحرب الحقيقية المبدعة هي الحرب الدفاعية» بالفعل عندما تدافع المجتمعات عن نفسها فإبداعها في هذه الحالة لا يحده حدود.

لسنا في حاجة لقنبلة ذرية، نحن في حاجة إلى مجتمعات تؤمن بأنها جزء من العالم المتحضر، عندها لن نخشى أحدا وسنكون أكثر قدرة على استخلاص ما سلب من حقوقنا على مائدة المفاوضات المباشرة. أنا على يقين من أنني لا أقترح شيئا جديدا على مصر والسعودية، أنا فقط أطالب بسرعة الإيقاعات في النفاذ إلى المستقبل أو بمعنى أدق اللحاق بالحاضر منتهزين فرصة الوقت الضائع.