انهماك باللاشيء

TT

ثمة مسرحية لشكسبير عنوانها «انهماك في إنجاز لا شيء». ولا أذكر للأسف، ما الذي ترجمه الخبراء. أو كيف ورد في ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لأعمال شاعر الإنجليزية. ما نعرفه هو أن جبرا لجأ من فلسطين إلى العراق الماضي، فتبنته دجلة وتبناها وانتسب إليها ونسي أصوله وأنسانا، وأن العراق الحالي، أو المنقرض، فجر منزل جبرا، وهو العراق الانقراضي - يفجر بقايا بغداد وأشلاء العراق.

وليس هذا هو الموضوع. فلم تعد جثث الأوطان وأشلاء الناس ذات أهمية إلا في توزيعها على الشوارع والأرصفة. و«الانهماك» الذي نعنيه هو تنقل «عاصمة الثقافة» من بلد إلى بلد ومن عام إلى عام. ويرفض المعنيون أن يخبرونا بأي ثقافة يحتفلون. وما الداعي إلى الاحتفال. وما المقاييس التي قررنا بموجبها أن لدينا ثقافة تجعلنا نبتهج، من عام إلى عام، ومن مكان إلى مكان؟

الثقافة عبق ومناخ وامتلاء وفيض. وهذه البقايا التي تتسلق على كعوبها لا تشكل عبقا ولا مناخا. الثقافة هي اجتماع المسرح والشعر والرواية والفن والموسيقى ونحن نصادر «ألف ليلة وليلة» التي انتهل منها كتاب وشعراء وأدباء العالم. والثقافة ليست قرارا يصدره مفوض الحزب، ولا معرضا مكسوا بالغبار والملل والتكرار وضجر الرقابة والرتابة. ومهما تسامحنا في تعريف الثقافة فإن ما لدينا منها لا يستحق كل هذا الانهماك. ومرور «السنة الثقافية» في مدينة لا يجعل منها عاصمة ثقافية. فالسيرك الجوال يمر أيضا بالعواصم والبلدان، مرورا بليدا، بلا أثر ولا جديد ولا إبداع. يكرر قديمه ويكرر تكرار الأيام. حتى أصوات المثقفين لم نعد نسمعها. لم نعد نعرف إذا كانت قد بقيت لهم قضايا أم لا. هل لا تزال لهم حياة خارج المعارض أم لا. نحن غارقون في بَلادة البلداء. نتطلع في الزوايا الأربع بحثا عن ألق أو بارقة. نبحث عن نجمة الصبح التي أضاءت للأجيال السابقة تلك الدروب الجميلة وفجرت لها تلك الينابيع. كتاب هنا وكتاب هناك لا يكفيان لإنشاء ثقافة أو بناء عاصمة. ثمة قحط مديد حتى الآفاق في كل ما هو فن وثقافة. ولا بارقة خلف الآفاق. وسامحونا.