حالف لاشرب من زيرك!

TT

ما زالت الأغنية التي سمعتها في البلاد البعيدة عن الحضارة ترن في أذني وتدور في رأسي، «حالف لاشرب من زيرك، لو كان المية طين.. اتمايل وانا ابوسك يا رباية السلاطين». يدور في رأسي الكلام والصوت والحركة لتلك السمراء فارعة الطول.

قضيت أسبوعا كاملا بلا جوال ولا تلفزيون ولا حتى صحيفة، أسبوعا خارج التغطية، هكذا فكرت في كتابة عنوان هذا المقال، بعيدا عن «الحضارة» أو خارج التغطية، كما يقولون، مع أناس لم يتعلموا كثيرا، ولكن فيهم من الذكاء الفطري ما يشحذ الذهن لدرجة لم أعهدها من قبل، وجدت الحضارة هنا في هذا الريف البعيد، حضارة أهم من تلك التي رأيتها في المدن في شرق الدنيا وغربها. الحياة خارج التغطية، حياة كاملة، لا تحس فيها بالصداع، تصحو فيها من نومك دونما النظر إلى شاشة الجوال؛ لكي تعرف عما إذا كانت لديك رسائل، لا تحاول أن تتنصت الأخبار؛ فقط تصحو مستقبلا يوما جديدا، بكل علاماته الطبيعية، شروق الشمس وانتصاف النهار والغروب. لم أحمل ساعة أيضا في هذا الأسبوع، مجرد النظر إلى الشمس والنجوم لتحديد الوقت، هذا إن كان هناك سؤال عن الوقت، ولكن في مثل هذه الأماكن الوقت ليس مهما، المهم هو الهواء النقي والصحبة، والأحاديث المختلفة؛ بعضها ديني والآخر دنيوي، أسئلة فيها لا تبعث على الخوف، ولكن معظمها يبث التفاؤل والأمل.

كان من أقرب الناس إلي في ذلك الأسبوع اثنان من أبناء أخي؛ عمر الأول ثمانية أعوام والثاني خمسة. جاءا إلي ذات صباح ومعهما بيضة يمامة، أو ما نطلق عليه هنا اسم «القمرية»، وطائر القمري أصغر من الحمامة قليلا، بني اللون، له صوت جميل حين يغرد، مربوط في الذاكرة المحلية بالتسبيح والدعاء، «ثم السلام ألف تحية، ما غرد القمري في حب الله»، هكذا يرددون عندما يرون القمري. قال ابن أخي الأكبر: «شفت بيضة القمرية يا عمي؟» قلت: «مالها؟» قال: «صحبتها مجاتش ليها خمستيام» أي أن صاحبتها لم تأت إليها منذ خمسة أيام. ثم أردف: القمرية، أنا أعرف القمرية التي باضتها، هي كانت تأتي إلى هذا العش منذ أسبوع، والآن مر أسبوع ولم تأت، (تلخبط الزمن عنده؛ هل المدة أسبوع أم خمسة أيام). هل ماتت، وهل لي أن أضع البيضة في عش آخر؟ نظر إليه أخوه الأصغر الذي كان يستمع إلى الحديث بنهم: «خليها مطرحها (أي دعها في مكانها)، لو حطيتها في عش تاني القمرية تتخربط في البيض (أي لن تعرف القمرية عند عودتها أي بيضة لها وأي بيضة لغيرها وتختلط الأنساب من وجهة نظرة)». وحملا بيضتهما ورحلا، ولم أسمع عنهما لبقية اليوم.

لا أخفيك سرا، إن قلت لك إنني اشتقت إلى قراءة الصحيفة بعد أربعة أيام، فسألت أحدهم: «الجرايد مبتجيش هنا؟» (ألا تأتي الصحف إليكم؟) الجورنان، هكذا يعرفونها وليس الجورنال. قال لي رجل في منتصف العمر، أقرب إلى عامه الخمسين من الأربعينات: «مالك بالجورنان؟»، (أي ماذا تريد من الجورنال؟) رفع وجهه، ونظر إلي نظرة العارف المتمرس وقال: «إنت فاكر أفلام زمان لما كان المخبر يعمل خرمين في الجرنان ويبص لك من وراهم؟» قلت: فاكر، ولكن ما علاقة ذلك بسؤالي؟ قال: «زمان كان المخبر ينظر لك من ورا الجورنان، دلوقتي (الآن) يطلع لك في الجورنان نفسه، الناس بقت جن وليت من بني الإنس اليومين دول، يا عمي صلي ع النبي». تفكرت في العبارة ومعانيها بعد أن تركني، وقلت في نفسي هذه هي قمة النقد لصحافة اليوم، ولو قال تلك العبارة رجل في المدينة في جلسة نقاش حول الصحافة في العالم العربي، أي مكان في العالم العربي، لاندهش الحاضرون وناقشوا هذه المقولة من مناظير مختلفة، البعض يتحدث عنها في إطار دخول الأمن على الصحافة، والبعض يتحدث عنها على أنها عودة الرقيب بطريقة أخرى، والبعض الآخر قد يراها جملة فلسفية شاملة أبعد من هذا وذاك، ولكن صاحبي أطلقها ومشى في حال سبيله. ونسيت بعدها رغبتي الجامحة في قراءة جورنال أو صحيفة.

عاد أولاد أخي بعد يومين فرحين، ولم أعرف سبب فرحتهما هذه المرة، كادت الفرحة تنسكب خارج عيونهم الصغيرة، فنظر إلي الأصغر قائلا وهو يقفز فوقي، «ياعمي، القمرية جات» أي (عادت اليمامة إلى عشها)، قالها وهو يتشبث بي كقرد صغير من أنواع الشمبانزي. كنت قد نسيت قصة اليمامة، وكنت مركزا في قصة الناقد الصحافي الذي تركني، وقصة أخرى سمعتها في حفل زفاف بسيط في قرية مجاورة. لكن عودة اليمامة كانت بالنسبة لهما كما حدث كبير، (بريكنغ نيوز)، وانطلقا يخبران من حولنا، وكأن الحدث قد ينقذ حالة انهيار البورصة أو ما شابه، لو كنت تعيش في مدينة كبيرة. العالم ليس قرية صغيرة كما تقول جماعة العولمة. العالم قرى كثيرة وصغيرة، وجزر غير متصلة، تتوزع فيها البهجة والسعادة بمساحات ودرجات متفاوتة، رغم رغبتنا في خلق وهم العولمة ووهم القرية الصغيرة.

لما ذهبنا إلى حفل الزفاف الذي كان قريبا منا، أحسسنا أننا لم نسر من قرية إلى قرية، تبعد أقل من كيلومتر واحد، وإنما مشينا من زمان إلى زمان، من بلاد إلى بلاد، حيث اختلفت اللغة واختلفت النغمات، وحركة الجسد، وكذلك محددات المسموح ومحددات الرغبة. بدأت إحدى الفتيات الطويلات السمر تغني بنغم فيه شجن وعتاب في آن كلمات سحرتني وقد لا تسحر غيري، بدأتها هكذا:

عبادي يا واد عبادي يا راكب ع الهجين..

حالف لاشرب من زيرك، لو كان المية طين.. واتمايل يا سماره، يا رباية السلاطين..

وكانت المغنية تتمايل وهي ترفل في ثوب يكاد يسقط عن جسمها؛ لما في القطن من انسيابية وثقل تحت وطأة جسدها ووطأة الجاذبية، ومع ذلك كان الثوب محافظا ومحتشما، أو هكذا خيل لي في الحالتين. ثم صدحت في سكون الليل البعيد:

تحت الشفة الرقيقة يحلى مضغ اللبان...

أتمايل وانا ابوسك يا عويد الخيرزان...

يجرالك ما جرا لي ياللي تلوم علي.

غنتها، وكأنها تغني أغنية عادية، رغم ما فيها من تلميح عال من الإيروتيكا المحلية. بدا وجهي للجميع خجولا أو مدعيا عدم الملاحظة؛ فغمزني من يجلس بجواري، قائلا: «رأيك إيه، بتسمع دا عنديكم» (هل تسمع مثل هذا عندكم؟)، قلت: لا. وحدثني عن أنواع الشفاة ورقتها من الناقة إلى المرأة، وقال لي: هذا ما نسميه بـ«الدور الأخضر»، والدور ليس طابقا في بناية، بل هو المقطع في الأغنية أو في الشعر، أي أن تقول «هات لنا دور» أي ألق علينا قصيدة. والدور الأخضر، هو القصيدة التي تدغدغ الحواس وتلهب المشاعر الحسية. ولهؤلاء القوم أنواع من التبرير القيمي لمثل هذه الأشعار، كما أن هذا النوع من الشعر يعد نوعا من التصريح للسلوكيات، فالأغنية تبدو انعكاسا لمنظومتهم القيمية الحاكمة.

غنت الفتاة السمراء فارعة الطول بصوت شجي وواثق:

اتلم ولاد الهوا... يشكوا لقاضي الغرام...

عشق البنات يا قاضي حلال ولا حرام

يحرم على المتجوز أما العازب حلال

وبعد أن أصدرت المغنية هذا الحكم الغنائي صفق الشباب من غير المتزوجين، وكأنهم حصلوا على تصريح مطلق.

ودعت حبيبي الغالي والدمع في عيني

تحت الشفة الرقيقة يحلى مضغ اللبان

اتمايل وانا ابوسك يا عويد الخيرزان

يجرالك ما جرا لي ياللي تلوم علي

ودعت حبيبي الغالي والدمع في عيني

وهكذا ودعت المكان، وقليل من الدموع في مقلتي. وهكذا كانت حياتي لأسبوع خارج التغطية، أو حسب رؤيتي، في كامل التغطية.