جائزة الملك عبد الله للترجمة تفتح جدلا حول اللغة

TT

لا شك أن الغربة الحقيقية هي غربة اللغة، هي الحاجز الفولاذي بين الأمم، والذي يمكن القفز عليه أو صهره بالتخاطب المباشر، أو تبادل العلوم و المعارف من خلال حركة الترجمة.

شعور المرء بالاندماج مع ثقافة مجتمع ما أو نفوره منها يعتمد على امتلاكه لسانهم، واختلاف الألسن معجزة عظيمة صنعها الخالق بإبداع، فكانت الوعاء الذي يحوي ثقافة الأمة. وفي الحديث الشريف «من تعلم لغة قوم أمن شرهم»، وهذا صحيح، يأمن شرهم وأيضاً يحظى بخيرهم، ولا خير يضاهي خير المعرفة التي تحتاج أن تسافر من أرض إلى أرض عبر قطار اللغة، ومن لا يمتلك فصاحة لغته، مع لغة العلم في عصره، فهو غريب الدار وإن كان في حضن أمه.

حينما دار الحديث حول أهمية اللغة الإنجليزية في مجال البحث العلمي، ثارت كتيبة من المنافحين عن اللغة العربية، على اعتبار أن العربية تمثل هوية الإنسان العربي وتاريخه، واعتبار العروبة هي قيمة هذا الإنسان والتي تعبر عنه أمام العالم، والأكثر من ذلك، تمنحه كرامة.

هذا الكلام المنمق جميل جداً لولا أن لا علاقة له مباشرة بالبحث العلمي، ولم يكن له علاقة بالثورة الصناعية التي بدأت منذ قرنين. إن المتمسكين بأهمية اللغة العربية كلغة ممكنة للبحث العلمي حجتهم في ذلك العلماء الأولون من المسلمين العرب الذين أسسوا لكثير من العلوم كالفيزياء والرياضيات والطب، هم في الحقيقة كاليونانيين الذين يسترجعون حضارتهم العظيمة ويمنّون أنفسهم بعودتها من خلال الشعارات.

تكتسب اللغة قوتها إن جاءت محمولة على ظهر الحضارة التي تنشئها العلوم المختلفة، والحضارة الإسلامية ذات اللسان العربي اندثرت كغيرها من الحضارات القديمة، ولكن من حسن حظ العربية أنها لغة الصلوات التي يؤديها المسلمون يومياً على اختلاف ألسنتهم، فهي لغة القرآن الكريم، وهذا ما أكسبها قيمة، وليس لأنها لغة ابن النفيس أو ابن رشد. وعلى اعتبارها لغة القرآن الكريم فلا خوف عليها من مجاورتها أو اختلاطها بلغات أخرى، بل إن هذه الميّزة ستحميها من الانعزال المؤدي إلى الاضمحلال والتآكل.

المفارقة العجيبة أن كثيرا من الرافضين لتعليم الطلاب اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية كمادة أساسية هم من الذين سبق لهم الابتعاث للخارج، ويقف هؤلاء لإلقاء أبحاثهم باللغة الإنجليزية في المحافل الدولية، وأبناؤهم يتلقون تعليمهم في مدارس أجنبية أو خاصة تعتمد اللغة الإنجليزية..

تنفق الحكومات والأفراد على الطلاب الجامعيين أو الخريجين ملايين الدولارات لإعادة تنمية قدراتهم في اللغة الإنجليزية تجاوباً مع متطلبات سوق العمل، لأنهم يأتون إلى بوابات التعليم الجامعي وهم لا يملكونها، تاركين خلف ظهورهم التعليم العام الذي يتحمل المسؤولية كاملة.

في الولايات المتحدة الأميركية بدأت خطة استراتيجية لتعليم الأطفال اللغة الصينية الغريبة الشكل واللفظ، على اعتبار أنها ستكون اللغة المنافسة للإنجليزية خلال وقت ليس بالطويل. لم يمنع المثقفين الأميركيين إيمانهم بلغتهم وانتماؤهم لها من التعامل بواقعية مع المتغيرات، فاللغة قيمتها فيما تنتجه لأهلها وللعالم وليس لتاريخها وتراثها.

الصينيون لم يُصدِّروا لغة الحضارة الصينية القديمة، بل صدّروا علومهم الحديثة المكتوبة باللغة الصينية، والفرق كبير بين الحالتين.

من جانب آخر، فإن حركة الترجمة في أي أمة أحد أهم مؤشرات تحضرها؛ فهي تعني القدرة على فرز الإنتاج المعرفي المحلي والخارجي كماً ونوعاً ثم تصديره واستيراده، وهذا أساس التحضر؛ إنتاج المعرفة و قبولها من الآخر المختلف.

والتعبير الصحيح عن التحيز للغة العربية يجب أن يكون إيجابياً من خلال تشجيع حركة الترجمة منها وإليها، وللأسف فإن حركة الترجمة من وإلى اللغة العربية ضعيفة مقارنة بما هو مأمول، وهو شأن لا يمكن أن نفصله عن نسبة مبيعات الكتب في البلاد العربية وأعداد دور النشر فيها والتي لا تزال متواضعة مقارنة بدولة أوروبية صغيرة كبلجيكا. لذلك فجائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز للترجمة تحمل قيمة معرفية وثقافية كبيرة ولا تهدف فقط لنشر اللغة العربية لمجرد الدعاية لها. إن الهدف الأساسي هو تمرين المجتمع العربي بشكل خاص على تبادل المعرفة مع الثقافات الأخرى، وخلق نقاط التقاء بين شعوب العالم.

وفي رأيي أن أبرز تأثير للجائزة هو تحفيزها للتأليف الجيد، لأنها ستنظر إلى قيمة العمل كمعيار لنيل الجائزة حتى وإن اضطر المقيمون إلى حجبها عن أحد مجالاتها التي تضم العلوم الطبيعية والإنسانية إن بدا العمل ضعيفا. ولعلي اقترح هنا مضاعفة قيمة الجائزة للترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى تحفيزاً للتأليف القيّم بلغتنا الأم.

ولا يفوتني كذلك بمناسبة تسليم الفائزين جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز للترجمة لهذا العام في مقر منظمة اليونيسكو بباريس، أن أقدم التهنئة لزملائي في جامعة الملك سعود في كليتي العلوم والطب، على نيلهم الجائزة في مجال العلوم الطبيعية في تخصصي الكيمياء الفيزيائية وجراحة الأعصاب، وهي تخصصات علمية دقيقة ستثري تراجمها المكتبة العربية.

إن من صيرورة الحياة أن الأفكار التصحيحية تتلمس طريقها بصعوبة، لكثرة المعوقين والمرجفين والعثرات، ولكن دعم حركة الترجمة في العالم العربي بمحاذاة تنمية القدرات اللغوية للطلاب في مراحل التعليم المبكرة يؤسس لشخصية متحضرة، متعددة المعارف، متنوعة الثقافات، متصالحة مع نفسها، ومنسجمة مع الآخرين.

* أكاديمية سعودية جامعة الملك سعود